المزاح والدعابة في السنة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

هل في هذا الدين فسحة لمزاح أو دعابة؟ وهل فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذلك أو فعل أصحابه من بعده؟ وما هو القدر الجائز من غيره؟ هذا ما سنتناوله معكم في بحثنا هذا اليوم بإذن الله - تعالى -.

ونبدأ وبنقل طرف مما ذكره أهل اللغة من معاني المزاح.

 

المزاح لغة

قد عرّف أهل اللغة المزاح بأنه: (الدعابة)، (ونقيض الجد)، قال ابن منظور: المزح (الدعابة)، وفي المحكم: المزح نقيض الجد، وهو من مزح يمزح مزحا ومزاحا ومزاحه وقد مازحة فمازحه ومزاحا والاسم المزاح بالضم والمزاحة أيضا والمزاح بالكسر مصدر مازحه وهما يتمازحان وفي لسان العرب: (المزح من الرجال: الخارجون عن طبع الثقلاء المتميزون من طبع البغضاء).

 

أما المزاح شرعا فقد عرفه الزبيدي بقوله: هو المباسطة إلى الغير على جهة التلطف والاستعطاف دون أذية (ليخرج بذلك الاستهزاء والسخرية).

وقد قال الأئمة: أن الإكثار منه والخروج عن الجد مخل بالمروءة والوقار، كما أن التنزه عنه بالمرة والتقبض مخل بالسنة والسيرة النبوية والمأمور باتباعها والاقتداء بها وخير الأمور أوسطها.

 

حكم المزاح في الشرع

إذن يمكن أن نقول أن المزاح الخالي من الموانع التي تعكر صفو الخواطر مندوب إليه، وهو خلق كريم حث عليه الشارع الحكيم.

يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا, وإن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون, والمتشدقون, والمتفيهقون، قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون المتشدقون فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون).

وحقيقة أن المسلم الذي يضم إلى الجد روح الدعابة ومفاكهة الحديث وعذوبة المنطق وطرافة الحكمةº لا شك أنه يملك القلوب بجاذبية حديثه ويأسر النفوس بلطيف معشره وكريم مداعبته.

فالمزاح سنة، وقد فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة الذين تربوا في مدرسته، فقد كانوا يتمازحون فيما بينهم ولكن إذا جد كانوا هم الرجال.

روى البخاري في الأدب المفرد بسنده إلى بكر بن عبد الله قال: (كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبادحون بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال)

يتبادحون: أي يترامون به، يقال: بدح يبدح إذا رمي (النهاية 1/14)

 

محل المزاح المندوب

والمزاح المندوب غالباً ما يكون ويجري بين الأهل والأقارب والإخوان والأصدقاء.

والغرض من المزاح (وللمزاح أغراض عظيمة) يكون بقصد تطييب نفس المخاطب ومؤانسته، يقول ابن حجر (وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله على ندره لمصلحة تطييب نفس المخاطب وموانسته وهو سنه مستحبة) ج 10/526

 

ويقول الماوردي: (والعاقل يتوخى بمزاحه حالين لا ثالث لهما وهما: 1/ أحدهما: إيناس المصاحبين والتودد إلى المخاطبين وهذا يكون بجميل القول ومستحسن الفعل.

2/ والثاني: أن ينفي بالمزاح ما طرأ عليه وحدث به من هم).

 

وصية في المزاح

وقد أوصى أحد السلف ابنه بوصيه بليغة ينبغي لكل مازح استحضارها لئلا تزل قدمه، فقال: لا تمازح الشريف فيحقد عليك, ولا تمازح الدنيء فتهون عليه).

ولم يكن مزح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخرج عن هذين الحالين السابقين حيث يقول - صلى الله عليه وسلم -: (إني لأمزح ولا أقول إلا حقا)، قال المناوي - رحمه الله -: قوله: (ولا أقول إلا حقا) لعصمتي في القول والعمل، والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يمزح لأن الناس مأمورون بالتأسي به والاقتداء بهديه، فلو ترك اللطافة والبشاشة ولزم العبوس لأخذ الناس من أنفسهم بذلك على ما في مخالفة الغريزة من المشقة والعناء فمزح ليمزحوا).

 

المزاح لماذا؟

والحقيقة أن في هذا رحمة من الله بهذه الأمة، فحياة المسلم لو كانت كلها على سمت واحد لما رأيت أحدا يأنس بأخيه.

لهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحث أصحابه على بث روح المحبة والألفة بينهم - رضي الله عنهم - أجمعين.

فعن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - قال: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق).

 

المزاح المنهي عنه

أما المزاح المنهي عنه فهو ما فيه إفراط يسبب قسوة القلب ويشغل عن ذكر الله والتفكر في مهمات الدين، ويؤدي في كثير من الأحيان إلى الإيذاء والحقد وسقوط المهابة والوقار.

 

يقول الشيخ بدر الدين الغزي: (وقد ورد في ذم المزح ومدحه أخبار فحملنا ما ورد في ذمه على ما إذا وصل إلى حد المثابرة والإكثار، وعلى هذا يحمل ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعده فتخلفه).

 

نماذج لمزاحه - صلى الله عليه وسلم -

أ/ مزاحه - صلى الله عليه وسلم - مع أهل بيتهº زوجاته/نسائه، وفي هذا المبحث بعض ملاطفاته ومزاحه المليء بالتربية، وهذا نتيجة حتمية لما عرف عنه - صلى الله عليه وسلم - من الخيرية لأهله ولأمته عامة:

فعن عائشة - رض الله عنها- أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي).

ومن الخيرية بعد أداء الوجباتº الصفح والإلفه وحسن المعاشرة وطلاقة الوجه.

 

وإليك بعضا من تلك الأخلاق:

 

1/ روى البخاري ومسلم بسنديهما إلى عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما: (يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام، فقلت: و- عليه السلام - ورحمة الله وبركاته).

قال النووي: (فيه أي هذا الحديث فضيلة ظاهرة لعائشة -رضي الله عنها-، وفيه دليل الجواز والترخيم).

قال الحافظ ابن حجر: (في هذا الحديث منقبة عظيمه لعائشة) رغم أنف الطائفة التي تحاول أن تنتقص من قدر عائشة.

ولا شك أن ترخيمه - صلى الله عليه وسلم - لاسم عائشة من باب المزاح والملاطفة للأهل.

 

2/ ومن طيب معاشرته - صلى الله عليه وسلم - لأهله والمبالغة في حسنها وطيبها قوله لعائشة: (كنت لك كأبي زرع لأم زرع).

وهذا جزء من حديث طويل اقتصرنا على محل الشاهد منه أورده البخاري في النكاح (باب حسن المعاشرة مع الأهل) من حديث عائشة قالت: (جلس إحدى عشرة امرأة فتعاهدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا) كما ذكر مسلم في الفضائل باب ذكر حديث أم زرع.

قال القرطبي معلقا على هذا الحديث: (الصحيح أنه كله من قول عائشة - رضي الله عنها - لا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لها (كنت لك كأبي زرع لأم زرع).

 

قال النووي:

1/ (في هذا الحديث من الفوائد مثل حسن عشرة المرء أهله بالتأنيس والمحادثة بالأمور المباحة مالم يفضي ذلك إلى ما يمنع.

2/ وفيه المزح أحيانا وبسط النفس به ومداعبه الرجل أهله وأعلامه لمحبته لها ما لم يؤد ذلك إلى مفسدة.

3/ وجواز الانبساط بذكر طرف لأخبار ومستطابات النوادر تنشيطا للنفوس.

4/ ومن مزاحه - صلى الله عليه وسلم - لأهله حتى ولو كان ذلك في حالة الشكوى والمرض (مثل ما أورده الإمام أحمد بن حنبل في المسند من طريق محمد بن إسحق بسنده إلى عائشة - رضي الله عنها - قالت: (رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم من جنازة بالبقيع وأنا أجد صداعا في رأسي وأنا أقول: وارأساه، فقال: (بل أنا يا عائشة وارأساه)، ثم قال: (ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك)، قلت: لكأني بك والله لو فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فعرست فيه ببعض نسائك، قالت: فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم بدى بوجهه الذي مات فيه.

4/ ومن مزاحه - صلى الله عليه وسلم - وملاطفته لأهله ما رواه أبو داوود بسنده إلى هشام ابن عروة عن أبيه وأبي سلمة عن عائشة - رضي الله عنها -: (أنها كانت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، قالت: فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني، فقال: هذه بتلك السبقه).

5/ ومن مزاحه مع أهل بيته مارواه النعمان بن بشير قال: استأذن أبو بكر على النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمع صوت عائشة عاليا فلما دخل تناولها ليلطمها وقال: لا أراك ترفعين صوتك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يحجزه وخرج أبو بكر مغضبا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين خرج أبو بكر: (كيف رأيتني أنقذتك من الرجل) قال فمكث أبو بكر أياما ثم استأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجدهما قد اصطلحا فقال لهما: أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -(قد فعلنا).

في مزاحه - صلى الله عليه وسلم- مع الصغار (الأطفال والصبيان)

 

وحقيقة من تأمل هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مزاحه ودعابته مع الصبيان يجد أنموذجا فريداً، فهو كونه - صلى الله عليه وسلم - نبيا ورسولا وقائد ومعلما ومربيا لهذه الأمة لم ينس الصبيان علماء المستقبل، فقد كان أرحم الناس بالصبيان والعيال.

ومن ذلك:

1/ عن أنس بن مالك قال: (ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي رواية (بالعيال والصبيان).

قال النووي: (فيه بيان كريم خلقه - صلى الله عليه وسلم - ورحمته للعيال والضعفاء وفيه فضيلة رحمه العيال والأطفال وتقبيلهم).

2/ ومن ذلك مارواه البخاري ومسلم بسنديهما إلى أبي البتاح قال: سمعت أنس بن مالك - رضي الله عنه - يقول: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: (يا أبا عمير ما فعل النغير)، والنغير: تصغير النغر وهو طائر أحمر يجمع على نفران.

وهذا الحديث من الأحاديث التي أفردها العلماء بتأليف خاصة دفاعا عن السنة المطهرة، ومن الكتب التي أفردت لهذا الحديث كتاب (فوائد حديث أبي عمر) لأبي القاص.

وذكر في مقدمه تأليفه أن سبب تأليفه أن بعض الناس عاب على أهل الحديث أنهم يوردون أشياء لا فائدة فيها ومثلوا بحديث أبي عمير هذا.

وقال - رحمه الله - أنه استخرج منه ستين وجها من الفقه من ضمنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جاء مازحه مما يدل على أنه كان يمازحه كثيراً، وإذا كان ذلك كذلك فهذا معناه:

أ/ أن الممازحة مع الصبيان مباحة.

ب/ وأنها مباحة إباحة سنة لا إباحة رخصة، لأنها لو كانت إباحة رخصة لما كان أكثر منها.

ح/ وفيه ما يدل على حسن الخلق.

د/ وفيه أنه يجوز أن يختلف حال المؤمن في المنزل عن حالة إذا برز فيكون في المنزل مزاحاً وإذا خرج كان أكثر سكينه ووقارا.

ه/ وفيه أن كان من صفته - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يواسي بين جلسائه حتى يأخذ كل بخط ويظهر ذلك في فعله - صلى الله عليه وسلم - عندما دخل على أم سليم، صافح أنسا ومازح أبا عمير الصغير، ونام على فراش أم سليم حتى نال الجميع من بركته.

(وهذا هو الحال الذي ينبغي أن يكون عليه الزعيم مع رعيته أو القيادي مع من يقود وحتى المستضيف مع ضيوفه).

3/ ومن ذلك أي ممازحته للصغار ما رواه الزهري عن محمود بن الربيع قال: (عقلت من النبي - صلى الله عليه وسلم - مجة مجها في وجهي وأنا بن خمس سنين من دلو) المج إرسال الماء من الفم من علي البعد.

وفي هذا الحديث من هدية - صلى الله عليه وسلم - ممازحة الأطفال جبرا لخواطر آبائهم وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا مع محمود قد يكون مداعبة له كما كان ذلك من شأنه مع أولاد الصحابة (جميعا بين القولين).

4/ ومن ذلك ما ساقه البخاري بسنده إلى أم خالد بنت خالد بن سعيد قالت: (أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أبي وعليّ قميص أصفر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنه سنه قال عبد الله وهي بالحبشية (حسنه) قالت: فذهبت ألعب بخاتم النبوة فزيرني أبي (زجرني)، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-:  (دعها) ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبلي واخلقي، ثم أبلي واخلقي) قال عبد الله: فبقيت حتى ذكر...يعني من بقائها).أبلي واخلقي: (العرب تطلق ذلك وتريد الدعاء بطول البقاء للمخاطب بذلك أي أنها تطول حياتها حتى يبلي الثوب ويخلق).

 

وفيه ممازحه بالقول والفعل.

والمتأمل لحديث أم خالد الصغيرة ليجد فيه عظم خلقه - صلى الله عليه وسلم - وطيب نفسه.

فقد اشتمل على الممازحة بالقول والفعل مع هذه البنت الصغيرة، قال الحافظ أثناء شرحه لهذا الحديث: (إن الممازحة بالقول والفعل مع الصغيرة إنما يقصد به التأنيس/والتقبيل من جملة ذلك).

5/ وفي بيان حرص الصبيان على التقرب من النبي - صلى الله عليه وسلم - وملاقاتهم له في الطرقات: (روى ثابت عن أنس -رضي الله عنه- قال: (أتي علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ألعب مع الغلمان قال: فسلم علينا فتبعثني إلى حاجه فأبطأت عن أمي، فلما جئت قالت: ما حسبك؟ قلت: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحاجة، قالت: ما حاجته؟ قلت: إنها سر، قالت: لا تحدث بسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أحدا، قال أنس: والله لو حدثت به أحدا لحدثتك يا ثابت).

وقد أجمل القرطبي فوائد هذا الحديث بقوله: (1) فيه دليل على تخلية الصغار ودواعيهم من اللعب والانبساط ولا يضيق عليهم بالمنع مما لا مفسدة فيه.

2/ وفيه دليل علي مشروعية السلام علي الصبيان وفائدته تعليمهم السلام وتمرينهم على فعله وإفشائه.

3/ وكتمان أنس سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمه دليل على كمال عقله).

6/ ومن أساليبه - صلى الله عليه وسلم - في المزاح والدعابة للأبناء ترخيم أسمائهم أو تصغيرها.

فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحسن الناس خلقا، فأرسلني يوما لحاجة، قلت: والله لا أذهب وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك فقال: (يا أنيس اذهب حيث أمرتك) قال: قلت نعم أذهب يا رسول الله، قال أنس: والله لقد خدمته تسع سنين ما علمته قال لشيء صنعته: لم فعلت كذا وكذا؟ ولا شيء تركته هلا فعلت كذا وكذا؟ يعني لم يعاتب وكان يصفح.

قال النووي: وفي هذا الحديث بيان كمال خلقه - صلى الله عليه وسلم - وحسن عشرته وخلقه وصفحه.

وقال القرطبي: (وقول أنس والله لا أذهب وفي نفسي أن أذهب) هذا القول صدر من أنس في حال صغره وعدم كمال تميزه فلم يؤدبه - صلى الله عليه وسلم - على هذا الفعل بل داعبه وأخذ بقفاه وهو يضحك رفقاً به واستلطافا له، ثم قال (يا أنيس اذهب حيث أمرتك)، فقال له أنا أذهب وهذا كله مقتضى خلقه الكريم وحلمه العظيم.

7/ومن ملاطفته وتأنيسه للصبيان مارواه ابن عباس قال: كنت ألعب مع الصبيان فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتواريت خلف باب، قال: فجاء (فخطأني خطأه) وقال: (اذهب وادع لي معاوية، قال: فجئت فقلت: هو يأكل، قال ثم قال لي: (اذهب فادع لي معاوية) قال: فجئت فقلت: هو يأكل، فقال: (لا أشبع الله بطنه).

قال ابن المثنى: قلت لأمية: ما خطأني؟ قال: قفدني قفده.

قال النووي: خطأه خطأة: هو الضرب باليد مبسوطة بين الكتفين وإنما فعل هذا بابن عباس ملاطفة وتأنيساً.

وفوائد هذا الحديث أجملها النووي بقوله:

1/ فيه جواز ترك الصبيان يلعبون بما ليس حرام.

2/ واعتماد الصبي فيما يرسل فيه من دعاء إنسان ونحوه.

8/ ومن مزاحه مع الأطفال وخاصة البنات مارواه أنس بن مالك قال: كانت عند أم سليم يتيمة وهي أم أنس فأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليتيمة، فقال: (أنت هيه؟ لقد كبرت، لا كبرت سنك).

فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكي، فقالت أم سليم: مالك يا بنية؟ قالت الجارية: دعا علي نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا تكبر سني فالآن لا تكبر سني أبداً أو قالت قرني، فخرجت أم سليم مستعجلة تلوث خمارها تدير على رأسها حتى لقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مالك يا أم سليم؟ فقالت: يا نبي الله أدعوت على يتيمتي؟ قال: (وما ذاك يا أم سليم؟ قالت: زعمت أنك دعوت أن لا يكبر سنها ولا يكبر قرنها قال: فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: (يا أم سليم أما تعلمين أن شرطي على ربي أني أشترط على ربي، فقلت إنما إنا بشر أرضى كما يرضي البشر وأغضب كما يغضب البشر فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل، أن يجعلها له طهورا وزكاة وقربه يقربه بيها منه يوم القيامة).

 

قال النووي: في هذا الحديث: (لا كبر سنك) وفي حديث معاوية (لا اشبع الله بطنه) ونحو ذلك لا يقصدون بشيء من ذلك حقيقة الدعاء فخاف - صلى الله عليه وسلم - أن يصادف شئ من ذلك أجابه فسأل ربه - سبحانه وتعالى - ورغب إليه أن يجعل ذلك رحمة وكفارة وقربه وطهوراً وأجرا).

 

9/ ومن مزاحه قوله لخادمه ممازحا: (يا ذا الأذنين) وهذا من المزح الذي لا يدخله كذب، قال أنس ابن مالك: قال صلي الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا ذا الأذنين) قال أبو سليمان الخطابي معلقا على هذا الحديث: (كان مزح النبي - صلى الله عليه وسلم - مزحا لا يدخله الكذب والتزيد وكل إنسان له أذنان فهو صادق في وصفه إياه بذلك).

10/ ومن مداعبته ومزاحه - صلى الله عليه وسلم - تصغيره لأسماء المخاطبين من أبناء الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فيكون بذلك مؤانسا لهم ولذويهم، (فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلاعب زينب أم سلمة، ويقول: يا زوينب... يا زوينب مرارا).

11/ ومن مزاحه ومداعبته لا حب الأطفال إليه - صلى الله عليه وسلم - الحسن بن علي - رضي الله عنه - ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال أبو هريرة: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ليدلع لسانه للحسن بن علي فيري الصبي حمرة لسانه فيبهش إليه) يعجبه ذلك فيسرع إليه. يدلع لسانه: أي يخرجه حتى تري حمرته يقال دلع وأدلع النهاية لابن الأثير.

ويقال للإنسان إذا نظر إلى الشيء فأعجبه وأسرع نحو بهش إليه.

النموذج الأخير في مزاحه صلي الله عليه وسلم مع أصحابه

ويتضمن هذا المبحث مزاحه مع أصحابه وفيه من التوجيه والإرشاد والأنس للقلوب والتواضع والنصح ما لا يعلمه إلا الله وذلك عملا منه بقوله تعالي: (واخفض جناحك للمؤمنين)

 

ومن ذلك:

1/ ما جاء في حديث جابر بن عبد الله الأنصاري قصه جمله المشهورة.

قال جابر بن عبد الله: غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتلاحق بي وتحتي ناضح لي قد أعيا ولا يكاد يسير قال: فقال لي: (ما لبعيرك) قال: فقلت عليل قال: فتخلف رسول - صلى الله عليه وسلم - فزجره ودعا له فما زال بين يدي الإبل قدامها يسير قال: فقال لي: (كيف ترى بعيرك) قال قلت بخير، قد أصابته بركتك قال: (افتبيعنيه) فاستحييت، ولم يكن لنا ناضح غيره قال: فقلت نعم فبعته إياه، على أن لي فقار ظهري حتى بلغ المدينة: قال فقلت له: يا رسول الله إني عروس فاستأذنته فأذن لي، فتقدمت الناس إلى المدينة حتى انتهت فلقيني خالي فسألني عن البعير، فأخبرته بما صنعت فلامني فيه قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لي حين استأذنته: (ما تزوجت؟ أبكرا أم ثيبا؟) فقلت له: تزوجت ثيباً؟) قال: (أفلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك؟) فقلت له يا رسول الله توفي والدي واستشهد ولي إخوان صغار فكرهن أن أتزوج إليهن مثلهن فلا تؤدبهن ولا تقوم عليهن فتزوجت ثيبا لتقوم عليهن وتؤدبهن قال: فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة غدوت إليه بالبعير فأعطاني ثمنه ورده علي)، وفي رواية أخرى: (أتراني ماكستك لأخذ جملك خذ جملك ودراهمك).

 

والمماكسة: المكالمة في النقص في الثمن.

وقد أجمل النووي فوائد هذا الحديث بقوله:

أ/ فيه معجزة ظاهرة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في انبعاث جمل جابر وإسراعه بعد إعيائه.

ب/ وجواز طلب البيع من لم يعرض سلعته للبيع.

ج/ وجواز المماكسة في البيع.

د/ وسؤال الرجل الكبير أصحابه عن أحوالهم والإشارة عليهم بمصالحهم

5/ استحباب نكاح البكر.

و/ كما إن فيه جواز الممازحة من الكبير لمن هو دونه كما ذكر صاحب سبل الهدى والرشاد انه وقع في رواية لجابر: فجعل رسول الله يكلمني ويمازحني.

2/ ومن مزاحه لأصحابه ما ثبت في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم في تفسيره للخيط الأبيض من الخيط الأسود قال عدي بن حاتم: قلت يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني اجعل تحت وسادتي عقالين: عقال ابيض وعقار اسود اعرف الليل من النهار فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن وسادتك لعريض، إنما هو سواد الليل وبياض النهار).

قال النووي: قوله (إن وسادتك لعريض) قال القاضي معناه أن جعلت تحت وسادتك الخيطين اللذين أرادهما الله - تعالى -وهما الليل والنهار فوسادتك يعلوهما ويغطيها وحينئذ يكون عريضا وهو معني الرواية الأخرى في صحيح البخاري (إنك لعريض القفا) لأن من يكون هذا وسادة يكون عظيم قفاه وهو معني الرواية الأخرى: (إنك لضخم).

وأنكر القاضي قول من قال: انه كنابه عن الغباوة.

3/ ومن مزاحه - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه ما وصل لعوف بن مالك الأشجعي قال عوف: (أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوه تبوك في قبة من أدم فسلمت فرد وقال: ادخل فقلت: اكلي يا رسول الله؟ قال: (كلك) فدخلت.

وفي رواية عثمان بن أبي عاتكة عند أبي داوود: أدخل كلي من صغر القبة.

قال محمد شمس الحق العظيم أبادي: (وفيه انه كما كان يمازج الصحابة كذلك كانوا يمازحونه).

4/ ومن مزاحه - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه رضوان الله عليهم ما رواه انس بن مالك أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله احملني فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا حاملك على ولد ناقة) قال: وما أصنع بولد الناقة؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (وهل تلد الإبل إلا النوق).

قال العلماء: إن هذا المزاح قاله - صلى الله عليه وسلم - مباسطا لهذا الرجل. وقال صاحب عون المعبود: (وفي هذا الحديث إباحة (المزاح والدعابة).

5/ ومن مزاحه - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه مارواه الإمام أحمد في المسند بسنده إلى عبد الحميد بن صفي عن أبيه عن جده قال: إن صهيبا قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين يديه تمر وخبز فقال: (ادن فكل) قال: فأخذ يأكل من التمر، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - (إن بعينيك رمدا) فقال: يا رسول الله إنما آكل من الناحية الأخرى قال فتبسم النبي - صلى الله عليه وسلم -.

ومن مزاحه - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه مارواه الإمام احمد في المسند من حديث أنس أن رجلا من أهل البادية كان اسمه زاهرا كان يهدي للنبي - صلى الله عليه وسلم - الهدية من البادية وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول فيه: (إن زاهرا باديتنا ونحن حاضروه) وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبه وكان رجلا دميما فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره فقال الرجل: أرسلني من هذا؟ فالتفت فعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل لا يألو ما الصق ظهره بصدر النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث عرفه وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول (من يشتري العبد؟) فقال يا رسول الله إذاً والله تجدني كاسدا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لكن عند الله لست بكاسد) أو قال: (لكن عند الله أنت غال).

7/ومن مزاحه - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه ما جاء عن (سفينة) مولى لأم سلمة - رضي الله عنها - قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فجعل كل من ثقل عليه متاعه من أصحابه حمله علي، حتى حملت من ذلك شيئا كثيرا فمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال (ما أنت اليوم إلا سفينه)

8/ ومن مزاحه - صلى الله عليه وسلم - العملي ما رواه عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أسيد ابن حضير رجل من الأنصار قال: بينما هو يحدث القوم وكان فيه مزاح بينا يضحكهم فطعنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في خاصرته بعود فقال أصبرني يعني أقدني من نفسك (أريد القصاص)، فقال:اصطبر قال: أن عليك قميصا وليس علي قميص فرفع - صلى الله عليه وسلم - قميصه فاحتضنه واخذ يقبل كشحه (الكشح هو ما بين الخاصرة إلي الضلع الأقصر من أضلاع الجنب.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply