كان سيدنا النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - يقف يوم بدر على رأس ثلاث مئة وستين مجاهداً من الصحابة ـ رضي الله - تعالى -عنهم ـ: قليل عددهم، ضئيل زادهم، لم يكن فيهم فارس يومها غيـر المقـداد، وأكثـرهم حـفـاة، لا يجـد النـبي - صلى الله عليه وسلم - ما يحملهم عليه، أو يكسوهم به، وكان كفن الشهداء ساعتئذٍ, نبات الإذخر.
يومـها كانـت فارس تمـتد في المشرق من أطراف الجـزيرة العربيـة حتى تتجاوز أسوار الصين، وتسيطر روما على مغارب الأرض من أطراف أوروبا الشرقية حتى ساحـل الشام وبعض بلاد أفريقيا الشمالية، وكنا نحن القليل عـددهم، الضـئيل زادهم، لا نرى غير راية الحق التي نحـمل للعالمين، ننـقذ البشـرية مما هي فيه من ضلال وتيه، فاستعـصى الطغاة على الدعـوة، ولم يبـق غير الحراب المؤمنة تنـفي العناد والشرك عن الأمم والشعوب التي تضـطهدها أنظـمة الجـاهلية والكـفرº لذلك كان سيدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على رأس المجاهدينº حربته الأولى في الحراب، وسيفه ذو الفَقَار الأقطع، ورمحه البتار يسبق الريح، ينشر الخير والنور والعدل والإيمان.
ومضت تلك السٌّنَّة مضيئة الآفاق، خالدة المعالم، تكتب التـاريخ بسـطور من دمـوع ودماء وإباءº فهذا أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يُخـرج جيـش أسامة بن زيد نحو الشام، ويتبـعه بعد ذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في فتـح بلاد بيت المقدس، يكتب له أبو عبيدة بن الجراح، ويذكــر جمــوع الــروم وما يتــخوف منهم، فكتب إليه عمر: «أما بعد: فإنه مهما ينـزل بعـبد مؤمن من منزلة شدة، يجعل الله له بعدها فـرجاً، وإنـه لـن يغـلب عسـرٌ يُسـرين، وإن الله - تعالى - يقول: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ} [آل عمران: 200].
ثم يمضي على السٌّنَّة ذاتها عثمان - رضي الله عنه - ، ويتواصل خروج الصحابة القُرَّاء حتى يستحرَّ القتل فيهم، فيجمع القرآنَ من الأفواه في المصحف العثماني، ولا يمنع القراء من مواصلة الخروج على رؤوس البعوث، يتقدمهم عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - فاتحاً في ثلوج أذربيجان، ويتبعه تلميذه سعيد بن جبير - رضي الله عنه - على رأس آلاف القراء من طلبة العلم مع ابن الأشعث شرقاً، بعد أن صار ركوبُ البحر، نحو قبرص ومطالع أوروبا، دأبَ الفاتحين ونهجهم.
ويُسلِمُ العراق والشام، وتمتد أعناق المطي برايتنا وارفة الظلال في البقاع الطاهرة، يحرس ثغورها العلماء جيلاً بعد جيلº فهذا الإمام المجاهد عبد الله بن المبارك، يحرس الثغر الشمالي في أطراف الشام العليا، فيرابط في ثغر طرسوس وحلب، ويصير طريق الشام مألوفاً له كما هو الأمر في طرائق المشرق ودروبها، شعاره حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «طوبَى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه» فيخرج محمد بن إبراهيم ابن أبي سكينة من الشام قِبَل الحرم، فيملي عبد الله بن المبارك عليه هذه الأبيات بطَرَطُوس قرب عكا من بلادنا فلسطين، إلى الفضيل بن عياض، ويودِّعه للخروج، وينشد معه:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا *** لعلمتَ أنك في العبادة تلعبُ
من كان يخضبُ خده بدموعه *** فنحورنا بدمائنا تتخضــبُ
أو كان يُتعِبُ خيله في باطل *** فخيولنا يوم الصبيحة تتعبُ
رِيحُ العبير لكم ونحن عبيرنا *** رَهَجُ السنابك والغبار الأطيــبُ
قال محـمد بن إبراهيـم: «فلقـيت الفضـيل بن عيـاض بكتابه في المسجد الحرامº فلما قرأه ذرفت عيناه، وقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني».
ويروي تلامذته صور جهاده وبلائه، فيقول عبدة بن سليمان المروزي: «كنا في سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدوَّ، فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه رجل فقتله، ثم آخر فقتله، ثم دعا إلى المبارزة فخرج إليه ابن المبارك، فطارده ساعة فطعنه فقتله، فازدحم إليه الناس فكنت فيمن ازدحم إليه، فإذا هو يلثّم وجهه بكمه، فأخذت بطرف كمه فمددتهº فإذا هو عبد الله بن المبارك، فقال: وأنت يا أبا عمروٍ, ممن يشنِّع علينا؟! ».
ويقول عبد الله بن سنان: «كنت مع ابن المبارك ومعمر ابن سليـمان بـطَرَطُوس فصـاح النـاس: النـفـيرَ، النفـيرَ! فخرج ابن المبـارك والناس، فلما اصطف الجمعان، خرج عِلجٌ رومـي فطـلب البِـرَاز، فخرج إليه رجل، فشد العلج عليه فقـتله...حتى قتل ستة من المسلمين، وجعل يتبختر بين الصفين يطلب المبـارزة، ولا يخـرج إليـه أحد، فالتفت إلى ابن المبارك، فقال: يا فلان! إن قُتلت فافعل كذا وكذا، ثم حرك دابـته وبـرز للعـلج، فـعالج معه ساعة، فَقَتَلَ العلجَ، وطلب المبارزة، فبرز له علج آخر فقتله، حتى قتل سـتة علوج، وطلب المبارزة، فكأنهم كاعوا ـ أي جبنوا ـ عنه، فضـرب دابـته وطـرد بين الصفين، ثم غاب، فلم نشعر بشـيءº فإذا أنـا به فـي الموضع الذي كان، فقال لي: يا عبد الله! لئن حدَّثت بهذا أحداً وأنا حيُّ... فذكر كلمة».
كذلك كان علماؤنا، وكذلك كان أهل الحديث خاصةº فالإمام ابن المبارك إمام في الحديث والجهاد، يمضي على طريقته الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبلº حيث يقول: «خرجت إلى الثغر على قدميَّ، فالتقطت» يعني: كان يلتقط التمر من الأرض من الجوع، يصاحب المجاهدين في مواقع النبال، يفتي المرابطين في الثغور ويعلمهم دينهم، ويروي لهم الحديث في مظانِّ الموت تماماً كما كان أبو موسى الأشعري حين يروي أحاديث الجهاد والرباط التي تلقاها عن سيدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرابط الخيل ووجه العدو، فيؤديها كما علمها.
نعم! فقد كان هذا دأب الصالحين من قبلُº فأبو أيوب الأنصاري يشخص مرابطاً في سبيل الله، حتى يُدفَن تحت أسوار القسطنطينية، ينتظر وعد رسولنا - صلى الله عليه وسلم -، بفتح القسطنطينية أولاً، وها هي شواهد الحق تروي للناس من بعدُ حكاية أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -º فهنا قبر أبي عبيدة، وهنا قبر معاذ بن جبل، وهنا قبر عكرمة، وهناك في الأرض تتبعثر قبور الصالحين من الفاتحين والمجاهدين، ليلتئم شمل أمة الجهاد والفتح المبين.
وهذا إمامنا البخاري - رحمه الله - إمام الحديث والفقه الجهادي، يرى حراسة الثغور دِيناً كما هو الأمر في رواية الحديث وطلبه، فيلزم الثغر الذي يخاف منه هجوم العدو، فيرابط في بلادنا فلسطين في قيسارية جنوب حيفا، ويرابط في أيلة، وبيت المقدس، ويتعب في رواية الحديث يوماً فيستلقي على قفاه، فيقول له تلميذه: ما الفائدة في الاستلقاء؟ قال: أتعبنا أنفسنا اليوم، وهذا ثغر من الثغور، خشيت أن يحدث حَدَث من أمر العدو، فأحببت أن أستريح، وآخذ أُهبةº فإن غافصنا العدو كان بنا حَراك. وكان يركب إلى الرمـي كثـيراًº فـما أخطأ سهمه الهدف إلا مرتين، وكان لا يسبقº يهتف بالحديث: «مَن عَلِمَ الرَّميَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَيسَ مِنَّا».
وكـان حذيـفة بن اليمان يغزو في أذربيجان وأرمينيا، ويعقب عمر الجيوش في كل عام، فشُغِل عنهم عمر، فلما مر الأجل قفل أهل ذلك الثغر، فاشتد عليهم وتواعدهم وهم أصـحاب رسـول الله - صلى الله عليه وسلم -º لتركهم الثغر في الموعد المحددº فكيف بمن سيَّب الثغور كلها؟
هؤلاء أئمة الدين والجهادº قد عرفت فَالزَم!
----------------------------------------
(*) عضو القيادة السياسية لحركة حماس.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد