إن الأدب أياً كان نوعه ـ قولاً أو فعلاً ـ خُلُق عظيم، ووصف نبيل، يعلو كلما علا شأن المتأدب معه، ويزداد علواً وعزاً وشرفاً إذا كان مع الله - عز وجل - وهو أحق من يُتَأدَّبُ معه. والحديث عن «الأدب مع الله» حديث يشرح الصدر، ويهذب النفس ويزكيها، ويسمو بها إلى معالي الأمورº فلقد كان أكثر الناس وأكملهم أدباً مع ربهم هم الأنبياء والرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ كيف لا، وهم أكرم الخلق وأتقاهم لله؟!
قال الله - تعالى - : {وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ, عَظِيمٍ,} [القلم: 4].
بل حثّنا - سبحانه وتعالى - على الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في هذا الخلق العظيم، في أقواله وأعماله وعبادته لربه، فقال - جل وعلا - : {لَقَد كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لِّـمَن كَانَ يَرجُو اللَّهَ وَاليَومَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
فمن الأدب مع الله - عز وجل - قولك: (إن شاء الله) عندما تخبر عن أمر تنوي فعله مستقبلاًº عملاً بقوله - تعالى -: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيءٍ, إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ...}[الكهف: 23 - 24].
يقول الشيخ السعدي - رحمه الله - : «فنهى الله أن يقول العبد في الأمور المستقبَلية: (إني فاعل ذلك غداً) من دون أن يقرنه بمشيئة الله، وذلك لما فيه من المحذور وهو الكلام على الغيوب المستقبَلية، التي لا يدري العبد هل يفعلها أم لا؟ وفيه رد الفعل إلى مشيئة العبد استقلالاً وذلك محذور ومحظورº لأن المشيئة كلها لله، ولما في ذكر مشيئة الله من تيسير الأمور وحصول البركة فيها».
وممـا يـدل على أهمية هذا الأدب وعلـو شـأنـه هو أن الـله - سبحانه وتعالى - قد استثنى في كلامه فقال: {لَقَد صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرٌّؤيَا بِالـحَقِّ لَتَدخُلُنَّ الـمَسجِدَ الـحَرَامَ إن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُم وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} [الفتح: 27].
قال ثعلب - رحمه الله - : «إن الله استثنى فيما يعلم، ليستثني الخلق فيما لا يعلمـون»، وقـال سيـد قـطب - رحمه الله - : «ولكن الله - سبحانه - يؤدِّب المؤمنين بأدب الإيمانº فالدخول واقع حتمº لأن الله أخبر به... إنه أدب يلقيه الله في رُوع المؤمنين ليستقر منهم في أعماق الضمير والشعور»(1).
وقـيل: إن الحـكـمة مـن استثناء الـله - عز وجل - هو أنـه - سبحانه - علم أنه يموت بعض الذين كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديبية.
ومما يدل على أهمية الاستثناء في تيسير الأمور وحصول مراد العبد منها ما ذكره الله لنا حكايةً عن بني إسرائيل لما طلب منهم موسى - عليه السلام - أن يذبحوا بقرة امتـثالاً لأمـر اللـه - عز وجل - فإنهم لو لم يستثنوا لم يهتدوا إليها.
قال الله - تعالى - : {قَالُوا ادعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَينَا وَإنَّا إن شَاءَ اللَّهُ لَـمُهتَدُونَ} [البقرة: 70].
ومن نماذج الأدب مع الله في الاستثناء في أقوال أنبيائه وعباده الصالحين، قول إسماعيل - عليه السلام - لأبيه عندما عرض عليه أمر ذبحه: {يَا أَبَتِ افعَل مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102].
قال سيد قطب - رحمه الله - : «ثم الأدب مع الله ومعرفة حدود قدرته، وطاقته في الاحتمال، والاستعانة بربه على ضعفه، ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية ومساعدته على الطاعة، ولم يأخذها شجاعة ولم يأخذها بطولة، ولم يأخذها اندفاعاً إلى الخطر دون مبالاة، ولم يُظهر لنفسه ظـلاً ولا حجماً، وإنما أرجع الفضل كـله للـه إن هــو أعــانه عــلى ما يطلب إليه، وأصبره على ما يراد بهº فيـا للأدب مـع الـله! ويا لروعة الإيمان! ويا لنيل الطاعة! ويا لعظمة التسليم! »(1).
وقال أهل العلم: «إن إسماعيل - عليه السلام - لما استثنى وفَّقه الله للصبر». ومن أمثلة الأدب في الاستـثناء قـول موسى - عليه السلام - للخضر: {قَالَ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعصِي لَكَ أَمرًا} [الكهف: 69].
فموسى - عليه السلام - عزم على الصبر مع الخضر، وعلَّق ذلك بمشية الله قبل أن يرى الممتحَن به، والعزم على فعل الشيء ليس بمنزلة فعله ولا حصوله، فهو لم يدّعِ حصوله في نفسه قبل أن يرى ما الذي سيمتحن به، ولذا فإن موسى لما رأى ذلك الممتحَن العظيم لم يصبر على ذلك، فهو لم يخرج على مشيئة الله له.
ومن نماذج الأدب مع الله في الاستثناء أيضاً قــول يـوسف - عليه السلام - : {إن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99]، وذلك لما رأى أبويه وإخوته قـد دخلــوا عليـه فـي ملـكه آمنين بأمـن الله. قال - تعالى -: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إلَيهِ أَبَوَيهِ وَقَالَ ادخُلُوا مِصرَ إن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99].
ومن النماذج التي تأدّب فيها الصالحون مع ربهم في الاستثناء قول صاحب مدين (الشيخ الكبير)(2) لموسى - عليه السلام - بعدما عرض عليه أن يكون أجيراً عنده كما في قـولـه - تعالى -: {سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِـحِينَ} [القصص: 27].
قال سيد قطب - رحمه الله - : «وهو أدب جميل في التحدث عن النفس وفي جانب الله، فهو لا يزكّي نفسه، ولا يجزم بأنه من الصالحين، ولكن يرجو أن يكون كذلك، ويَكِلُ الأمر في هذا لمشيئة الله»(3).
إن مشيئة الله نافذة مطلقة ومثبتة، ومشيئة العبد تابعة تحت مشيئة الله، ولن تنفذ مشيئة العبد إلاّ بمشـيئة الله. قـال - تعالى -: {وَمَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبٌّ العَالَمِينَ} [التكوير: 29].
قال السعدي - رحمه الله - : «فإن مشيئة الله نافــذة عـامة لا يخرج عنها حادث قليل ولا كثيرº ففيها رد على القدرية الذين لا يُدخِلون أفعال العبد تحت مشيئة الله، والجبرية الذين يزعمون أنه ليس للعبد مشيئة ولا فعل حقيقة، وإنما مجبور على أفعاله، فأثبت الله للعبد مشيئة حقيقةً وفعلاً، وجعل ذلك تابعاً لمشيئته»(4).
فلما كان هذا الأدب مع الله يجلب الخير للعبد من تيسير أموره، وعدم تأخرها، وحصول البركة فيها، فإنَّ تَركَه(5) نسياناً قد يتسبب في تأخير ما تنوي فعــله مستقــبلاً، وهـذا ما حصل للنبي - صلى الله عليه وسلم - حينما سأله اليهود عن خبر الفتية، فقال: أخبركم غداً. ولم يقل: إن شاء الله، فاحتبس الوحي عنه حتى شق عليه، فأنزل الله هذه الآية يأمره بالاستثناء في مثل هذا، ولو نسيه فإنه يستثني عندما يذكره.
قال الله - تعالى -: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيءٍ, إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَاذكُر رَّبَّكَ إذَا نَسِيتَ... } [الكهف: 23 - 24].
قال الشوكاني - رحمه الله - : «أي إذا نسيت الاستثناء فقل: إن شاء الله. سواء كانت المدة قليلة أو كثيرة»(6).
وقد يكون في تركه نسياناً عدم تحقيق الفعل، أو لا يتم له حصول الفائدة منه، ومثل هذا حدث لنبي الله سليمان - عليه السلام - عندما ترك الاستثناء ومضى في فعله.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال سليمان بن داود: لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة ـ وفي رواية: تسعين - تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقال الملك: قل: إن شاء الله. فلم يقل: إن شاء الله. فطاف عليهنّ فلم يلد منهن إلاّ امرأة واحدة نصف إنسان، قال - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان دركاً لحاجته» رواه البخاري ومسلم.
فالواجب على من عزم أن يفعل أمراً مستقبلاً أن يقول: إن شاء الله، قبل أن يُقدِم على ذلك، تأدباً مع الله، وامتثالاً لأمره، واقتداء بأنبيائه وعباده الصالحين.
سدّد الله الخطى، وبارك في الجهود، وهدى إلى الصواب من القول والعلم والعمل.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
----------------------------------------
(1) «في ظلال القرآن» لسيد قطب، (6، 3330).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد