نستقبل في هذه الأيام شهر رمضان العظيم الذي أنزل فيه القرآن روحاً وحياة للإنسان الذي يهتدي بهداه، وعمىً على كل من كفر وابتعد عن أنوار التنزيل وتاه في قفر الأوهام، وكان من أسرار هذه العبادة في هذا الشهر المبارك أن المسلم يمتنع عن شهواته المباحة من الطعام والشراب فيتعود الصبر والمشاق والخشونة والرجولة والعزة والكرامة، فينشأ إنساناً آخر غير الذي تعرفه المجتمعات المهينة أو المجتمعات المتكبرة.
هكذا تعلم المسلمون من رمضان، وقد سمعوا قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (اليد العليا خير من اليد السفلى) [1]، فكان أحدهم يقع السوط من يده فينزل عن فرسه ليأخذه، ولا يطلب من أحد مناولته إياه.
وأقسم الصحابي الذي سمع هذا الكلام أن لا يقبل عطاء من أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وكان مما عرفنا عن الأمة التي تشرفت بحمل الرسالة، ونزل القرآن بلغتها كانت تقول في أمثالها: » تجوع الحرة ولا تأكل بثديها « إشارة إلى منتهى الإباء والشموخ، ثم دار الزمان دورته، ونعيش هذه الأيام لنرى المسلمين يتكففون أيدي الناس، وينتظرون المعونات من الدول والمجتمعات الغربية والغنية، رضوا بالأدنى على الذي هو خير، يريدون أن يقوم اقتصادهم على الصدقات والمنح، وينتظرون تحسن الميزانيات عن طريق من يأتي ليستمتع بالدفء المتوسطي، وإذا ألقيت نظرة على الجرائد وصفحاتها الاقتصادية فستجد أن المشاريع في هذه البلاد هي بناء الفنادق على شواطئ البحار، أو شركات أجنبية لتحسين إنتاج التبغ! ! أو استيراد المواد الاستهلاكية، وبعض الدول الفقيرة تحلم ببئر من البترول حتى تنتقل فجأة من الفقر إلى الغنى وحتى يمرح الشعب ويفرح، فهم كالفقير الذي يحلم بكنز من ذهب فهو يبحث عنه وما هو ببالغه، أما التفكير في الزراعة والصناعة، وتشجيع المهن اليدوية وأنواع الخبرات العالية في شتى فروع التقنية فهذا غير وارد عند القوم إلا قليلاً، وقد سرى هذا الداء إلى الأفراد بشكل عام، فالعربي الذي يملك مالاً إذا فكر في الاستثمار سواء في بلده أو في بلد أجنبي، فلا يفكر إلا في الأشياء الاستهلاكية التي تدر ربحاً سريعاً ومفاجئاً، وكثيراً ما يكون هذا الربح السريع من المال الحرام.
والسبب في هذا أنه ليس في مناهج التربية تكوين الشخصية المستقلة التي تكافح وتغامر وتضرب في الأرض وتركب البحار، بل تربى على الغش والذل واكتساب المال بالحيل، وسبب آخر وهو حب الظهور والفخفخة، وهذا لا بد له من المال الكثير في الوقت القليل، ولذلك لا يطلب الرزق من الوجوه الطبيعية مثل الزراعة والصناعة والتجارة.
وأساس التقدم الاقتصادي هو العمل وليس البحث عن الكنوز، وانتظار المفاجآت.
روت عائشة -رضي الله عنها- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: » إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه « [2]، وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: » استغنوا عن الناس ولو بشوص السواك « [3]، وكان أحد أتباع التابعين يقول لتلاميذه: » ألزموا السوق «، ويقول الإمام أحمد - رحمه الله -: » أحب الدراهم ألي درهم من تجارة، وأكرهها عندي الذي من صلة الإخوان «.
إن الحكومات والشعوب تبحث عن الأدنى مع أن خيرات البلاد العربية والعالم الإسلامي كثيرة وفيرة وأرضها واسعة، وتربتها طيبة، وإن بداية الاستغناء عن ذل القروض أو الهبات هو في العمل الزراعي والصناعي، وإذا كانت أوربا قد تكتلت في الحلف الاستعماري عام 1881 فإنها تتكتل الآن في صورة (السوق المشتركة) من أجل الزحف الاقتصادي، ومع الأسف فإن أكثر المجتمعات استهلاكاً في العالم هي المجتمعات الإسلامية إلا ما ندر، ومن الغريب أن بعض الدول العربية كانت حالها في الخمسينات والستينات أفضل مما هي عليه الآن سواء من حيث الزراعة أو التصنيع، فهل رأيتم كيف تنهب الأموال وتسلب البركة، وكيف تذل الشعوب.
قلنا في العدد الماضي أن من السياسة العليا اهتمام المسلمين بالمدارس والمناهج، ونقول هنا أيضاً إن من السياسة العليا اهتمام من يملك المال بالاستثمار في الزراعة والصناعة حتى لا نستجدي غذاءنا من عدونا.
-----------------------------------------------
(1) فتح الباري 3/35.
(2) أبو بكر الخلال / الحث على التجارة / 27، وقال المحقق أنه صحيح.
(3) السلسلة الصحيحة 1450.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد