جاء في كتب السير أن سائلة فقيرة قالت لسعيد بن العاص -وهو من الأجواد المعروفين-: \"أشكو إليك قلة الجرذان في بيتي\".
ففطن لمقولتها، وقال: \"ما أحسن مَسأَلَتَهاº املأوا بيتها سمناً ودقيقاً\".
وجاء في سيرة وزير الأندلس محمد بن الخطيب السلماني أنه قال عند سفارته من ملك غرناطة إلى ملك المغرب ابن عنان أبياته المشهورة التي ارتجلها عند الدخول إليه، والتي يقول طالعها:
خليفةَ اللهِ ساعَدَ القدرُ عُلاك*** ما لاح في الدٌّجا قَمَرُ
ثم قال:
والناس طُرَّاً [1] بأرض أندلسٍ,*** لولاك ما وطنوا وما عَمَروا
وقد أَهَمتهُم نفوسُهُمُ*** فوجهوني إليك وانتظروا
فقال له ابن عنان: \"ما ترجع إليهم إلا بجميع مطالبهم\".
وأذن له بالجلوسº فسلَّم عليه.
قال القاضي أبو القاسم الشريف قاضي غرناطة المتوفى سنة 760 -وكان من جملة الوفد-: \"لم نسمع بسفير قضى سفارته قبل أن يسلم على السلطان إلا هذا\".
وجاء في سيرة القاضي أبي البركات التلمساني أنه لما عزم على الرحلة من المغرب إلى المشرق لما ضاق عليه العيش - كتب إليه ابن خاتمة بالأبيات التالية:
أشمسَ الغربِ حقاً ما سمعنا*** بأنك قد سَئِمتَ من الإقامة
وأنك قد عزمتَ على طلوع*** إلى شرقٍ, سموتَ به علامة
لقد زلزلتَ منا كلَّ قلبٍ,*** بحق الله لا تُقِمِ القيامة
فحلف أبو البركاتِ ألا يرحل من إقليم فيه من يقول مثل هذا.
فتلك القصص، وغيرها كثير في كتب السير - مما يؤكد صحة المقولة التي أطلقها الأوائل: \"حسن طلب الحاجة نصف العلم\".
وكلما تقدم الإنسانُ في العمر، وتقلَّب في المشاهدات، ومجاري الأحداث - رأى صحةَ تلك المقولةº فتجد من الناس من يحسن السؤال والطلب والعرضº فيجاب عن سؤاله، وتُلبى له طَلِبته، ويُشكر له حسن عرضه، أو يعتذر له اعتذاراً يليق به، خصوصاً إذا صادف ذلك الحُسن محلاً قابلاً، وأرضاً ذات زرع.
ولقد كان الأكابرُ والعظماء يقدرون مَن يرعى هذا الجانب -كما مر-.
كما كانوا يعيبون مَن يُقَصِّر في هذا، ويعدٌّونه زرايةً به، ومنقصةً في حقه.
ولهذا لما انتجع جريرٌ عبدَالملكِ بنَ مروانَ بقصيدتَه المشهورةِ التي يقول مطلعها:
أتصحو أم فؤادُك غير صاحِ*** عَشِيَّةَ همَّ صحبُك بالرواح
قال له عبدُالملك: بل أنت فؤادك غير صاح.
وكان جريرٌ يَقصِدُ نفسَهº حيث جرد منها ذاتاً أخرى، غير أن عبدالملك -وهو البصير النقَّادة الخبير- أراد أن يلفت نظر جرير، وينبهه إلى سوء مطلعه.
ولما وصل جرير إلى قوله:
ألستم خير من ركب المطايا*** وأندى العالمين بطون راح
تهلل وجه عبد الملك، وبلغ به الارتياح إلى أن أمر لجرير بعطاء جزل قوامه مائة ناقة وزيادة.
ومن هذا القبيل ما عابوه على قول من قال في ممدوح له يجتديه:
فرشني بسيب لا أكونن ومدحتي*** كناحت يوماً صخرة بعسيل[2]
فمثل هذه السير ترشد السائل في مسائل العلم وغيرها، وترشد طالب الحاجة سواء كانت له أو لغيره، وسواء كانت في أمور خاصة أو عامة - إلى أن يحسن العرض، ويتلطف في الطلب دون تكلف، أو تملٌّقº فذلك أحرى لنيل بغيته، وإجابة طَلِبَتِه.
3/8/1427هـ
----------------------------------------
[1] طُرَّاً: يعني جميعاً.
[2] معنى قوله: (فرشني): أي أعطني، وقوله: (بسيب): أي بعطاء، وقوله: (بعسيل): العسيل ريشة المكحلة.
ومعنى البيت: أعطني عطاءً، ولا تجعلني كمن يبري صخرة صماء بريشة مكحلةº فمثل هذا لا يحصل على شيء.
وهذا البيت في غاية الجفاء وسوء الطَّلِبة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد