ورغب في ذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال فيما رواه البخاري ومسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه).
وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن مدة الضيافة ثلاثة أيام، فقال فيما رواه البخاري ومسلم: (الضيافة ثلاثة أيام فما بعد ذلك فهو صدقة).
وأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتقديم ما تيسر للضيف ونهى عن التكلف، فقد أخرج أحمد والحاكم عن سلمان الفارسي قال: (نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتكلف للضيف).
وسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - تدل على الاقتصاد في ذلك وعدم التكلف، فقد أخرج البخاري ومسلم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: (ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولم على امرأة من نسائه ما أولم على زينب فإنه ذبح شاة)، وقال: (أطعمهم خبزا ولحما حتى تركوه).
كما أن سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - تدل على أنه لا يشترط تقديم اللحم للضيف، بل يقدم ما تيسر ولو لم يكن فيه لحم، فقد أخرج البخاري ومسلم عن أنس قال: أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بين خيبر والمدينة ثلاث ليال يبني بصفية فدعوت المسلمين إلى وليمته وما كان فيها من خبز ولا لحم وما كان فيها إلا أن أمر بالانطاع فبسطت فألقي عليها التمر والاقط والسمن فشبع الناس).
وإذا كان الإسلام حث على إكرام الضيف فإنه نهى عن الإسراف في الكرم والمخيلة في ذلك لما يترتب على الإسراف من الأضرار في الأفراد والمجتمع. ومن هنا فإن الإسلام يحرم كل طريق من طرق الانفاق يلحق ضررا بالأخلاق أو المجتمع ويكسب صاحبه طغيانا وكفرا بالنعمة وصدودا عن الواجبات في حق نفسه وجيرانه والناس أجمعين.
قال - تعالى -: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} [الأعراف: 31]. وقال - تعالى -: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما} [الفرقان: 67].
وقال - تعالى -: {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا (26) إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا} [الإسراء: 26 - 27].
وأخرج النسائي بسند حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (كلوا واشربوا وتصدقوا ما لم يخالطه إسراف ولا مخيلة).
والتبذير هو الإسراف، فتبذير المال تفريقه إسرافا، والإسراف في النفقة تبذير، وقد نص العلماء على أن من أنفق ماله في الشهوات زائدا على قدر الحاجات وعرضه بذلك للنفاد فهو مبذر ومسرف.
وقد أخرج ابن ماجه بسند حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من الإسراف أن تأكل كل ما اشتهيت).
وإذا كان ذلك كذلك فإن إكرام الضيف - إذا زاد عن الحاجة والاعتدال - يدخل في دائرة الإسراف والتبذير وكلاهما محرم شرعا، ولهذا نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أكل طعام المتنافسين في إكرام الضيف لما في ذلك من الرياء والمباهاة ولأنه داخل في جملة ما نهى الشارع عنه من الإسراف والتبذير.
أخرج أبو داود عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل).
والمراد بـ(المتباريين) المتعارضين بفعلهما يقال: تبارى الرجلان إذا فعل كل واحد منهما مثل فعل صاحبه ليرى أيهما يغلب صاحبه..
وقد نص العلماء على ترك حضور الدعوة التي فيها معصية كالإسراف والصور والخمور ونحو ذلك لما في ذلك من إقرار المنكر، اللهم إلا إذا استطاع الضيف الإنكار فله ذلك، أخرج ابن ماجه بسند صحيح عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، قال: صنعت طعاما فدعوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء فرأى في البيت تصاوير فرجع، قال: فقلت: يا رسول الله ما أرجعك بأبي أنت وأمي؟ قال: إن في البيت سترا فيه تصاوير، وإن الملائكة لا تدخل بيتا فيه تصاوير).
وأخرج أحمد وغيره بسند حسن عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدن على مائدة يدار عليها الخمر).
وقال الإمام الأوزاعي: (لا ندخل وليمة فيها طبل ولا معازف).
هذا وإذا كان الإسراف والتبذير محرما فما حكم من أظهر إساءة التصرف في أمواله وإنفاقه لها في غير وجهها، هل يمنع من هذه التصرفات وأمثالها أم يترك وشأنه لأنه يتصرف في خالص ملكه؟
لقد أفرد العلماء لهذه المسألة بابا خاصا من أبواب الفقه الإسلامي هو (باب الحجر) ومن تتبع ما بحثه الفقهاء في موضوع الحجر يتجلى له بوضوح عناية الإسلام بممتلكات الأفراد وأموالهم وحرمة التعرض لها من غير مسوغ شرعي، وضرورة المحافظة عليها من قبل المالك نفسه إن كان أهلا لذلك ومن قبل المجتمع عامة ومن يليه ولاية مباشرة بصفة خاصة.
وقد ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة إلى الحجر على السفيه، والسفيه كما يقول ابن حجر هو الذي يضيع المال ويفسده لسوء تدبيره.
قال ابن المنذر: (أكثر علماء الأمصار من أهل الحجاز والعراق والشام ومصر يرون الحجر على كل مضيع لماله صغيرا كان أو كبيرا) قال - تعالى -: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا} [النساء: 5].
الوسطية في النظرة الإسلامية: الشريعة الإسلامية حثت على الجود والكرم لما في ذلك من المنافع التي تعم الأفراد والمجتمع والكرم خصلة محمودة وهو حد بين طرفين، فمتى جاوز حده صار إسرافا وتبذيرا ومتى نقص عنه كان بخلا وتقتيرا.
وقد ذم الشارع الإسراف والتبذير وذلك لما ينتج عنهما من الآثار السيئة على الفرد والجماعة، فالاغراق في الملذات وصرف الثروات في غير وجهها، كل ذلك يؤدي بالأفراد والجماعات إلى تبلد في الشعور وعدم إحساس بالمسؤولية والتطلع إلى أمور لا تستحق الاهتمام فضلا عن أن تكون أهدافا يسعى إليها الإنسان. كذلك ذم الشارع البخل والتقتير لما فيها من تعطيل المال عن أداء وظيفته الحقيقية ومنع تداوله بين الناس لتحقيق تلك الغاية، قال - تعالى -: {وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [التغابن: 16].
وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم: (اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم.. حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم).
هذا ومنهج الإسلام هو المنهج الوسط، لذلك أمر بالكرم والجود، وذم الإسراف والبخل، والأدلة على وسطية النظرة الإسلامية كثيرة منها قوله - تعالى -: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما} [الفرقان: 67].
قال الإمام الشاطبي: (إذا نظرت في كلية شرعية فتأملها تجدها حاملة على الوسط..، ومسلك الاعتدال واضح وهو الأصل الذي يرجع إليه والمعقل الذي يلجأ إليه).
وقال الإمام ابن القيم: وضابط هذا كله العدل وهو الأخذ بالوسط الموضوع بين طرفي الإفراط والتفريط وعليه بناء مصالح الدنيا والآخرة بل لا تقوم مصلحة البدن إلا به فإنه متى خرج بعض أخلاطه عن العدل وجاوزه أو نقص عنه ذهب من صحته وقوته بحسب ذلك، وكذلك الأفعال الطبيعية كالنوم والسهر والأكل والشرب والجماع والحركة والرياضة والخلوة والمخالطة وغير ذلك، إذا كانت وسطا بين الطرفين المذمومين كانت عدلا وإن انحرفت إلى أحدهما كانت نقصا وأثمرت نقصا.. ).
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد