الغيرة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

لقد خلق الله الإنسان وفضَّلهُ على كثير المخلوقات وكرمه، (وَلَقَد كَرَّمنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلنَاهُم فِي البَرِّ وَالبَحرِ وَرَزَقنَاهُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلنَاهُم عَلَى كَثِيرٍ, مِمَّن خَلَقنَا تَفضِيلاً) (الإسراء: 70).

خلقه في أحسنِ صورة، وأرسل له الرسل، وأنزل له الكتب، وأراهُ الآيات في نفسه والآفاق، وعلى وجه الحقيقة أسبابٌ لسعادته، ومعارج له يصعدُ بها في مدار ج الحياة، والتميز على سائرِ المخلوقات، فإن هو استمسك بها، تدرج بها في سلالم الكرامة، وإن هو تخلى عنها هوى في مهاوي المهانة والصغار، (وَالتِّينِ وَالزَّيتُونِ * وَهَذَا البَلَدِ الأَمِينِ * لَقَد خَلَقنَا الإِنسَانَ فِي أَحسَنِ تَقوِيمٍ, * ثُمَّ رَدَدنَاهُ أَسفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُم أَجرٌ غَيرُ مَمنُونٍ,} (سورة التين).

إنَّ المتهاونَ في أمرِ دينه يهوي ويهبط، حتى يكون دون البهائم التي تُسيِّرُها غرائزها.

وإنَّ من رحمة الله وفضله، أن ركبَّ في بني الإنسانِ من الطبائع والشمائل ما يُساهم في حفظِ إنسانيتهم، والإبقاء على المنزلةِ التي رشحهم الله لها، وحسبُك من ذلك الغيرة على المحارم، والشرف والحمية للأعراض، فهي جِبِلةٌ كريمة، تجيشُ في صدورِ الأسوياء، فتحمي مجتمعاتهم من التهتك والفساد، ألم تر أنَّ بعضَ أهلِ الجاهليةِ كانوا يدفنون بناتهم، وهنَّ أحياء خشيةَ العار، وتلك غيرةٌ جائرةٌ زائدةٌ عن حدها، عن الحد المطلوب، فلما جاءَ الإسلام أشاد بهذا الخلق الكريم، ولكنَّه رشدَّهُ وهذَّبه عمَّا كان عليه، حتى جعلها غيرةً تحولُ دونَ الأعينِ الخائنة أن تمتدَ للمحارم، ودُون الجوارحِ الآثمةَ أن تعتدي على ما حرَّم الله عليها، ولقد غلت الغيرة في دماءِ أبي بكر- رضي الله عنه- ووجد حرها في قلبه، يوم أن قيل ما قيل في عائشة، فقالها بمرارة وحنق (ما رضينا به في الجاهلية أفترض به في الإسلام) جاهليتهم بفجورها، وسُننها الفاسدة لم تكن ترضي أن تبتذل الأعراض، فكيف بإسلامهم- رضي الله عنهم-؟

في ذروةِ جاهليتهم، تراها عينٌ ولا تمتدُ إليه يدٌ، فلما كان الزنى بمثابة الضربة القاضية على العرض، والمحطمة لبناءِ العز والشرف، حرمهُ الإسلام وحرم كل السبل المقضيَّة إليه، الدالةُ عليه، قال - عز وجل -: {وَلا تَقرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} نهى عن مجردِ الاقترابِ منه، ولهذا حرِّمت كلُ ذريعةٍ, إليه، فحرَّم اللهُ السفور، والتبرج ووسائله، والاختلاط وأنماطه وضرُوبه، وتشبه المرأةِ بالرجل، وتشبهها بالكافرات، واقرأ سورة النور تعلم كيف استقصى الإسلامُ أسباب الفساد الأخلاقي وحرمها، اقرأها ترى كيف أحض القرآن كل الجسور المؤدية إلى الزنى فقطعها، فأسكت الألسُن التي ترمي بالفواحش، وتعملُ على إشاعةِ أخبارها، بل حارب الظنَّ والوسُاوس، وطالب أهلها بجمع الشهود، وأغلظ عليهم في الشهادة، وأوجبَ استئذان الأولاد والبنات، حتى لا يطَّلعوا على العورات، فتتحركُ بواعثَ الشهوةِ في نفوسهم، وحرَّم على المرأةِ إبداء زينتها للأجانب عنها، وتلطف المرأة باللفظ القرآني، حتى بلغ أدقَّ التفاصيل، فمنع المرأةَ من الضرب برجلها، ليُسمع صوت خلخالها، إذ كان ذلك يثيرُ الرجال ويحركهم نحوها، فأيٌّ صيانةٍ, هذه للمرأة، وأيٌّ حفاظٍ, عليها، تبارك الله - عز وجل -، {ألا يعلمُ من خلق وهو اللطيفُ الخبير}.

ففي الأحكامِ الشرعيةِ التي أحاطت بالمرأةِ، فشكَّلت سياجاً آمناً، وحصناً منيعاً لعفتها وشرفها، فسفرها دُون محرمٍ, حرامٌ عليها، والخلوةُ بها محرمة، ومصافحتها محرمة، ودخول الرجال عليها حتى وإن كانوا إحماءها حرام، وشُرع لها صلاتها في بيتها، وأُسقط عنها وجوبُ الجمعة، وأمرها بغضِ بصرها، وأمر بغض البصرِ عنها، ونهاها عن الخضوع بالقول والتكسُر فيه، وأمرها بشدِّ وجهها وقدميها وذراعيها وعنقها، كلُ ذلك وهي مساويةً للرجل في الحقوق والواجبات، مفتوحةً لها أبوابُ العلم والإبداع، بما يوافقُ فطرتها، ويلائِم تركيبها، فالرجال بالقوامة عليها، بالسعي عليها صيانةً لها عن ابتذال نفسها، وحفظاً لها من الاستغلال والاستضعاف، وحسبك ما نسمعُ من استغاثة الراكضات خلف المال والوظيفة، مما يجدنه من المضايقات والتحرشات والاعتداءات.

 

إن تأملك في هذه الأحكام، وتمنعك فيما يربي ووعيك بها، يُربي فيك الغيرة على نسائك، ويوقظُ فيك ما أماتته وسائلُ الإعلام، من معاني الرجولة والنخوة، فإذا كان اللهُ يُحببُ للمرأةِ الصلاة في بيتها دون المسجد، فكيف ترضى أنت أن تسعى نساؤك في الأسواق لحاجة ولغير حاجة، وإذا كان الله ينهاها عن أن تخضعَ بالقول، فكيف ترضى أنت لزوجتك أو بنتك أن تَبتذلَ نفسها بمجادلةِ الباعة وممازحتهم ومضاحكتهم، وإذا كان القرآنُ يُحرم عليها الضرب برجلها ليُعلم ما تخفي من زينتها، فكيف يرضى الحرٌّ الشريف أن تعرض نساؤه مُقلهن وأعينهن وقد كحلنها، وأكفهن وقد وشينها، وخضبها على ذئابٍ, تتضور جوعاً لأعراض النساء، قد ألهبت أكبادهم قنوات الانحلال.

الغيرةُ خلقٌ كريم، يكادُ يُختنقُ في زمنٍ, سُميت فيه الفاحشة حُرية، وسُميت فيه الرجولةُ رجعية.

قال الغزالي: (إنَّ من ثمرةِ الحميةِ الضعيفة، قلةُ الأنفةِ من التعرضِ للحُرم والزوجة والأمة، واحتمالُ الذل من الإخاء، وصفر النفس والقماءة، وقد يثمر عدم الغيرةِ عن الحريم، فإذا كان الأمرُ كذلك، اختلطتِ الأنسابُ، ولذلك قيل كلَ أمةٍ, ضَعفت الغيرةُ في رجالها، ضَعفت الصيانةُ في نسائها، فإنَّهُ قد خُلقت الغيرةُ لحفظ الأنساب، فعلى هذا كل أمةٍ, فُقدت الغيرةُ في رجالها، فُقدت الصيانةُ في نسائها،) ولا خير في رجلٍ, يرى في أهله ما تنكس لهُ رؤوس الأحرار، ثم لا تجيشُ في نفسه أحاسيسُ الرجال، وأقسمُ بالله إنَّ حالَ المرأةِ ليدلُ أصدقَ الدلالةِ في غالبِ الأحيان على مقدارِ نفسِ رُعاتها من الغيرة، فلو فتَّشت وراءَ المتهتكات المتبرجات، لوجدتَ وراءهنَّ أشباهَ رجالٍ,، قد تحرت فيهم أدواءُ الديانة، واستسلموا لتياراتِ الفجور، ولذلك فهو يرى من ولاَّهُ اللهُ رعايتها، تُقلبُ وجهها في وجوهِ الرجال، ويراها تُحادثُ الأجانب وتُضاحكهم، وتتكسرُ أمامهم، وتتفنجُ لهم، أو يرى بناتهم وهنَّ يُقلبنَ أبصارهنَّ في وجوهِ البغايا والمومسات، اللاتي دخلنَّ البيوتَ المسلمة من خلالِ الشاشات، ويرى نساءهُ وهنَّ يتمايلنَ طرباً مع رناتِ الفجور، ونغماتِ الفسق، ويرى صورةَ العُراة والعرايا تملأُ الشاشة في بيته، أمام أعينِ أولاده وبناته، ثم لا تتحركُ في قلبه بواعث المروءةِ، لموت غيرتهِ وانعدام رجولته، وضدَّ ذلك ترى المرأةَ العفيفة المتحجبة، ذات الطرف الفضيض، والصوت الخفيض، والمشيةَ المحتشمة، ثم ترى خلفها رجالاً أباةً ذوي مروءةٍ,، وأهلُ حمايةٍ, وصيانة، وأجل طرفكَ في البيتِ الذي تربت فيه، تراه محصناً طاهراً، لا تجدُ فيه صورةً فاضحةً، ولا تسمعُ منهُ نغمةً آثمة، {وَالبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخرُجُ إِلَّا نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآياتِ لِقَومٍ, يَشكُرُونَ} (لأعراف: 58).

إنَّكم في زمنٍ, آلا فيه الأعداءُ على ترويضِ الرجال على الديانة، وتربيةِ النساءِ على الفجور، ولا سلامةَ إلاَّ بفقه الحدودِ التي حددها الله لصيانةِ الأعراض، ولا أمانَ إلاَّ بتربيةِ الرجال على الغيرة على الحُرم، وهي من أكرمِ شمائلِ الرجل المسلم، لما يترتبُ عليها من المصالح، ولما يدفعُ اللهُ بها من السُوء عن الأمة، وكلَّما علت رتبةُ المرءِ في الإيمان زادت غيرتُه، ولا غيرةَ لمن لا إيمانَ له، ولهذا كان الرسولُ- صلى الله عليه وسلم - أشدٌّ الأمةَ غيرةً، وكان يَروي عنهُ أصحابهُ، فلمَّا قيل لسعد بن عُبادة- رضي الله عنه- يا أبا ثابت قد نزلت الحدودُ لو أنَّك وجدتَ مع امرأتك رجلاً كيف كنت صانعاً؟ قال: كنتُ ضاربيهما بالسيفِ حتى يسكُنا، فأنا أذهبُ فأجمع أربعة؟ فإلى ذلك فقد قضى حاجتهُ، فلمَّا سمعهُ رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم - ضحكَ وقال: (تعجبون من غيرةِ سعد،! لأنا أغيرُ منه والله أغير مني) رواه البخاري.

وحسبُك أن يعلي اللهُ من شأن الأعراض، فيجعلَ الموت دُونها شهادة في سبيله، قال- صلى الله عليه وسلم -: (ومن قُتل دون أهله فهو شهيد), ولو تأملتَ في الاعتداءاتِ التي تقعُ فيها النساء، لوجدت أنَّ أكثرَها وقعَ بتفريطٍ, من رجالهم، رُوي أنَّ امرأةً كانت تُؤدي بعض مناسكها، فاقترب منها شابٌ فكلَمها وآذاها، فقالت اتق الله، فإنَّك في مقامٍ, عظيم، ولمَّا كان اليومُ الثاني فعلَ معها مثلَ ما فعلَ في اليومِ الأول، وقالت لهُ مثلما قالت، فلما همَّت بالخروج في اليومِ الثالث، قالت لزوجها هلمَّ معي؟ علِّمني المناسكَ فلمَّا رآها الشابُ، ورأى زوجَها فرَّ من وجهها، ولم يعاودها، فأنشدت:

تعدو الذئاب على من لا كلابَ له *** وتتقي سورة المستأسدِ الحامي

وكما أنَّ الرجلَ يغارُ على أهل بيته، فكذلكُ يجبُ على العالم أن يغارَ على نساءِ أمتهِ، فينبعثُ لتقييدِ الطرح الثقافي الأثيم، الذي يُحاصرُ الفضائلَ وينتقصها من أطرافها، ويُأجِجُ نارَ الفتنِ والفجور، فمرةً باسم حريةِ المرأة، وأُخرى باسم فرصِ العمل لها، ومرةً يُحركُ سيدات الأعمال، ومرةً يدعوا هاوياتِ الرياضة لارتياد الأندية، فلا يسعُ علماء الأمةِ، ولا دُعاتها وولاتها، أن يُسلِّمُوا الحمى لمن حملوا أقلامهم رِماحاً مسمومةً يُمزقون بها أدِيم الفضيلةِ، ويهتِكون بها شرف الحرائر.

{والله يريدُ أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً}.

إنَّ الغيرةَ صفة حميدةُ لله - عز وجل -، أكملَها وأجملَها وأعلى مراتبها، عن أبي هريرةَ- رضي الله - تعالى -عنه- أنَّ النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: (إنَّ الله - تعالى -يغارُ وغيرتُه أن يأتي المؤمن ما حرَّم الله عليه).

 وعن أسماءَ- رضي الله عنها- أنَّها سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا شيءَ أغيرُ من الله) وبقدرِ إيمانَ المرءِ تعظُمُ الغيرة في نفسه، قال- صلى الله عليه وسلم -: (المؤمنُ يغارُ والله أشد غيراً) فهي حرارةٌ يجدُها المؤمنُ في قلبه، إن يراد بعرضه سوءاً، وعلى قدرِ طاعةِ المؤمنُ لربهِ يمنحهُ اللهُ مزيداً من ذلك الشعورِ العارم، بعظَمِ منزلةَ عرضه، وعلى قدرِ ما يقعُ المرءُ في المعاصي، تنحلُ الغيرةُ من فؤاده، وتتلاشى الحميةُ في صدره، وتتساقطُ معاني الرجولة، وقد أشارَ ابن القيم- عليه رحمةُ الله- في كلامٍ, طويلٍ, إلى أنَّ الغيرةَ تضعُفُ عند الرجلِ بقدرِ تلبسهِ بالمعاصي، فإذا هانت حُرماتُ الله على الرجل، وركب إلى المعاصي كل مطية، هانَ تمكينُ عرضه، ورضيَ في أهلهِ السُوء، فذاك الديوث، الذي يطيرُ في الأنام بحثاً عن الحرام وبعداً عن مجالس أهله، ويتقلبُ في مضاجع الرذيلة، تراهُ أقلَّ الرجالِ غيرةً على نسائه، بل تراهُ أحياناً يحملهنَّ على التبرج والسفور، ويزجٌّ بهنَّ في الأسواق، وتراهُ يعرض ابنتهُ ذاتَ العشرِ سنين، متذرعاً بأنَّها صغيرة، وقد لاحت عليها معالمُ الأنوثةِ والنضج، وعائشةَ تقول: (إذا بلغت الجاريةُ تسعَ سنين فهي امرأة) ومع ذلك فهو يلبسُها البنطال، ويترُكُها تعرضُ جسدها في كاملِ زينته في الأسواق، أمام الأعين الجائعة، والنفوس المريضة، وتراهُ يرى زوجته تُقلبُ صفحات المجلات الهابطة، وتتسلى من وجوهِ الفسقةِ وأجسادهم، ولا يشعرُ ثم لا يُحركُ فيه ذلكَ ساكناً، فقَدَ كل معاني الرجولةِ، وماتت في نفسهِ أحاسيسُ المروءةِ والشرفِ، فنشكو ما حل بأُمتنا إلى الله - عز وجل -.

إنَّ برامجَ السياحةِ، ومنتجعاتِ الترفيه، في أغلبها منتجعاتٍ, غربية، لم يُراع في تصميمها آدابُ الإسلام، ولا مكارمُ الأخلاق، ولذلك يكثرُ التهتكُ في المنتجعاتِ ويفيضُ فيها، مما يُستوجبُ على المؤمن الغيور، والحر الضعيف، أن يصونَ نفسهُ ومن تحت يده، عن الأماكن التي يكونُ فيها عرضهُ على خطر، أو دينُه على جرف.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply