عاصي يبني الحياء [4]


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

رواى ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: \'إن الله إذا أراد أن يهلك عبدًا نزع منه الحياء فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتًا ممقتًا [أشد ما تبغض وتكره إنسانًا]، فإذا لم يلقه إلا مقيتًا ممقتًا نزعت منه الأمانة، فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه إلا خائنًا مخونًا، فإذا لم تلقه إلا خائنًا مخونًا نزعت منه الرحمة، فإذا نزعت منه الرحمة لم تلقه إلا رجيمًا ملعنًا، فإذا لم تلقه إلا رجيمًا ملعنًا نزعت منه ربقة الإسلام\'. [رواه ابن ماجه]

 

الحديث فياض بمعايير جليلة منها:

[1] إن نزع الحياء علامة الهلاك ولذا كان لا بد للعبد من بذلك قصارى جهده لبنائه وزيادته ونموه لا لهتك ستره وإزالته.

[2] لقد أوتي - صلى الله عليه وسلم - جوامع الكلم، إذًا فلا بد أن للتكرار في الحديث فائدة وغرضًا قوله - صلى الله عليه وسلم - لم تلقه إلا مقيتًا ممقتًا، فإذا لم تلقه إلا مقيتًا ممقتًا....\'، وكذا في باقي الحديث يجعلنا هذا نتلمح في التكرار فائدة ألا وهي بيان أول الفعل وآخره أو أقل الفعل وأكثره أي بمعنى أوضح كأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبرها أن نزع الحياء على درجات، أقله سبب في أن تلقي الرجل أحيانًا مقيتًا ممقتًا، فإذا استمرأ الفعل ونزع الحياء كان ذلك دأبًا له، وكان هذا سببًا في نزع ما وراءه وهكذا تدور السلسلة.

[3] حياء فأمانة فرحمة، ومقت فخيانة فلعنة هكذا تترتب السلسلة، كما أخبرنا بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ونفسهما بصورتين الأولى: بقدر فقد الأمانة والرحمة بقدر ضعف الحياء في النفوس، والثانية ارتباط كل من الأمانة والرحمة كخلقتين منفصلتين بالحياء مع جعل الحياء أصلاً لهما إذن فالعناية أيضًا بهذين الخلقين مما يرفع درجة الحياء وينميه ويزكيه ويبنيه في النفس البشرية.

[4] نزعت منه ربقة الإسلام \'تنبه معي عزيزي القارئ أننا نتكلم هنا عن أخلاق يصف النبي - صلى الله عليه وسلم - صاحبها المتخلي عنها جميعًا \'بأنه في الطريق إلى نزع ربقة الإسلام من عنقه.

إن العبادات والمعاملات أي وعلاقة العبد بربه وعلاقته بخلقه ربه إذا صيغت وفق شرع ربه لا بد أن تثمر تحولاً جذريًا في خلقه وسلوكه مع ربه وخلق ربه.

قول النبي - صلى الله عليه وسلم - \'إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق\'.

وقوله: \'من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له\'.

أي من لم تثمر صلاته حياءً في القلب يحجز الجوارح عن معصية ربه فلن تثمر ما أمره بزراعتها من أجله.

7ـ آخر النصوص النبوية معناها توجيه مباشر آخر لوسائل بناء الحياء في النفس البشرية عن عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: \'استحيوا من الله حق الحياء\' قلنا: يا رسول الله إنا نستحي والحمد لله. قال: \'ليس ذلك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا وآثر الآخرة على الأولى، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء\'. [رواه الترمذي]

ولنا مع هذا الحديث لمحات ووقفات في وسائل بناء الحياء في القلوب والنفوس:

 [1] استحيوا من الله حق الحياء \'فعل الأمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقتضي الوجوب والوجوب هنا ليس منصبًا على أصل وجود الحياء ولكن على تحقيق هذا الحياء، وتحصيل أعلى الدرجات وهو الحياء الحق وليس مجرد الحياء.

 [2] يا رسول الله إنا نستحي والحمد لله قال: ليس ذلك: تصحيح التصورات والأفهام والتنبيه إلى عدم حسن الظن بالنفس، ووضع مقاييس ربانية يقيس بها العبد الحياء الحق في وجوده وعدمه فلا يكون المرء مستحيًا من الله حق الحياء حتى يستوفيها ويجمع أصولها، وهذه هي المقاييس والعلامات لا مقاييس أهل الأرض والأعراف الخاصة بهم.

 [3] \'استحيوا\' الألف والسين والتاء في اللغة للطلب أي اسعوا وابذلوا الجهد في طلب تحصيل منزلة حق الحياء وهو تنبيه ورد على القائلين بأن الحياء هبة وليس اكتسابًا فها هو أمر نبوي صريح واضح بتحصيل الأسباب المؤدية للوصول إلى منزلة حق الحياء، وعلى قدر بذل الجهد يكون تحصيل المنزلة والمرتبة.

 [4] \'أن تحفظ الرأس وما وعى\' هذه أولى وسائل بناء الحياء ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينبهنا أن الحياء وهو خلق قلبي لا بد أن يبدو أثره على الجوارح، ولكن يزيد قدره في القلب لا بد من زيادة العناية بتكوينه وإنمائه في الجوارح، وكأننا مطالبون بالتعامل مع كل عضو على حدة نقيس مستوى الحياء فيه ثم نقوم بزيادته ورفع درجته، فقد يكون الإنسان حييًا في التعامل بأنفه أو أذنه فليس من خلقه التصنت على الناس وتلمس أخبارهم، وكذا ليس من خلق أذنه سماع ما يغضب الله - تعالى -، لكنه في الوقت ذاته تنطلق عينه هاتكة ستر حيائها مجترأة على ما يكون سببًا في غضب ربها منه، إذن الوسيلة الأولى حفظ الرأس وما حوى وهو يتكون من مفردات هي العين والأنف والأذن واللسان وقبل كل ذلك وبعده الفكر، فهو كذلك من أهم الأمور التي ينبغي الحرص على الحياء فيها، فأية فكرة ترد على الذهن سل نفسك هل تحب أن يطلع عليها أحب الناس إليك من صالحي أهلك أو أصدقائك، فإذا كانت الإجابة بلا فأسرع بطردها وعدم الاسترسال معها.

 [5] \'والبطن وما حوى\' تنبيه إلى الحياء في طيب المطعم وطهارة اليد واستشعار الاكتفاء والقناعة بما رزق الله عما حرم الله \'اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك وأغننا بفضلك عمن سواك\'.

 [6] \'ذكر الموت والبلى\'، وهو تحقيق الشعور بأن الآخرة حاضرة عيان ليست غيبًا بعيدًا هذا من وسائل تحقيق الحياء، إذا تذكر المرء علاقاته للملائكة وأن الله سيقبضه على خاتمته التي كان يعمل ويفكر بها في الدنيا وتشغل عليه كيانه.

 [7] \'ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا وآثر الآخرة على الأولى\' وكأنها سلسلة متصلة لا تنفصل عن بعضها، فالحيي مستحضر لله في كل حياته مستصحب لآلائه ونعمائه عليه في كل حين وآن، مستشعر للقيمة الحقيقية للدنيا مؤثر للآخرة عليها.

 [8] \'فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء\' من فعل، أما من لم يفعل فليس بمستحيٍ, وهي عودة ثانية إلى التأكيد أن الحياء يكتسب بالاستحياء وأن مجالات هذا الاستحياء هي الرأس وما وعى والبطن وما حوى وتذكر الموت والبلى وإيثار الآخرة على الأولى.

وختامًا فقد ورد الحديث المروي في صحيح سنن النسائي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: \'إن الله - عز وجل - حليم حيي ستير يحب الحياء والستر.... \'

ربما كان لاقتران الحياء والستر فيما يحب الله إشارة إلى أنه حيث وجد الحياء وجد الستر والعفاف، وحيث تحل الجرأة على القبائح يحل معها التكشف والفضائح وعيوب النفوس مستورة بجلباب الحياء، فإذا ما نزع الستر تكشفت أمراض النفوس وتجرأ الصغير على الكبير، وانطلق الناس من كل قيد وتحرروا من كل وازع وغرقوا في أوحال الرذيلة، وستبقى الفطرة السوية السليمة ميالة إلى الحياء والستر.

وبعد،

فهذه جملة وسائل عملية يراد بها أن ينتقل العاصي من ستر للحياء مهتوك وأدب مع الله مفقود إلى صاحب حياء تستحي منه الملائكة، وصاحب أدب أدبه به رب العالمين، ولكن أين العزيمة والإرادة؟ أين الرغبة والتصديق؟ أين البذل والجهد:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم  *** وتأتي على قدر الكرام المكارم

وتعظم في عين الصغير صغارها  *** وتصغر في عين العظيم العظائم

قال - تعالى -: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحسِنِينَ} [العنكبوت: 69]

\'ألا إن سلعة الله غالية إلا إن سلعة الله الجنة ألا هل من مشمر\'

 

----------------------------------------

المراجع:

[1]  وقفة مع الحياء ـ ياسر عبد الرحمن

[2]  هذه أخلاقنا ـ محمود الخازندار

[3]  أين نحن من أخلاق السلف ـ عبد العزيز الجليل

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply