في التزكية الإيمانية سلامة الصدر


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله.

من الأخلاق الإسلامية العظيمة التي حث الإسلام على التحلي بها، والتدرب عليها، وممارستها حتى تصبح سجية وفطرة، سلامة الصدر، بمعنى أن يكون المرء سليم الصدر من الغل والغش والحقد والحسد والضغينة والبغضاء .. فهذه الأمراض سببها الأساسي حب الدنيا والتنافس على متاعها.وكل مرض منها يسبب للمرء قلقاً واضطراباً، ويحرمه من الطمأنينة والرضا.

وسنرى كيف عظم الإسلام من قيمة سلامة الصدر، ورغب فيها، وبين آثارها ونتائجها الطيبة على حياة الإنسان في الدنيا وعلى ثوابه وأجره في الآخرة.

يقول الله - سبحانه - في وصف المؤمنين حين يدخلون الجنة:

(ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون).

ويقسم القرآن الكريم المجتمع الإسلامي إلى ثلاث طبقاتº طبقة المهاجرين، وطبقة الأنصار، وطبقة الذين جاءوا من بعدهم، فيثني على كل طبقة وأهلها، ويقول في الطبقة الثالثة:

\" وَالذِّينَ جَآءُو مِن بَعدِهِم يَقُولُونَ رَبَنَا اغفِر لَنَا وَلإخوَانِنَا الّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلاَ تَجعَل في قُلُوبِنَا غِلاً لِلّذِينَ ءَامَنُوا رَبَنَا إنّكَ رَءُوفٌ رّحِيم \".

إن نزع الغل من القلوب مطلب كريم، ودرجة رفيعة تستحق أن يدعو المسلمون ربهم لتحصيلها وبلوغها: \" ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم \". وهو بعد ذلك صفة أثنى الله على أهلها، وذكرهم في جملة طبقات أهل الخير والفضل.

 

آثار سلامة الصدر على المجتمع:

إن أمة الإسلام أمة صفاء ونقاء في العقيدة والعبادات والمعاملات والأخلاق، وقد نهى النبي عما يوغر الصدور، ويبعث على الفرقة والشحناء فقال: لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث [رواه مسلم.

حين تؤخذ تعاليم الإسلام على وجهها، يمكن أن نتصور مجتمعاً فاضلاً كريماً، يجمعه الحب والتآخي والإيثار، مجتمع ليس فيه تباغض ولا تحاسد، فكل مسلم يحب للناس من حوله ما يحب لنفسه من الخير، ويؤثرهم به. فالرسول يقول في هذا المعنى: \"والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم \". رواه مسلم.

إذا كان قصدك أن ترضي الله - سبحانه -، وتدخل الجنة، هان عليك أن تبذل ما بيدك من المال، وتؤثر به إخوانك، وتترك منافسة الناس في الدنيا، وتحرص على المنافسة في عمل الخير، وبذل المعروف، وصناعة الإحسان. وعندئذ ستزول أسباب التباغض والتحاسد، ويصبح ما بينك وبين الناس قائماً على المودة والمحبة والتسامح.

هكذا كان مجتمع الصحابة رضوان الله عليهم، كل منهم يحب إخوانه، ويسعى في خدمتهم وقضاء حوائجهم، ويحرص على إكرامهم وإيثارهم واحترامهم، فكان مجتمعهم خير مجتمع عرفه التاريخ، وكانوا خير أمة أخرجت للناس.

سُئل النبي: أي الناس أفضل؟ قال: \" كل مخموم القلب صدوق اللسان \" قالوا: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: \" هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد \" رواه ابن ماجه.

ويؤكد الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أن سلامة القلب ضرورية لرفع الأعمال وقبولها، فيقول: \" تعرض الأعمال على الله - سبحانه - يوم الاثنين والخميس من كل أسبوع فينظر فيها، غير عمل اثنين بينهما شحناء، فيقول: أنظروا هذين حتى يصطلحا \".

الإسلام يريد مجتمعاً ليس فيه شحناء، بل كله تراحم وأخوّة، الصغير يوقر الكبير، والكبير يعطف على الصغير، والغني يعطي الفقير، والفقير يتعفف فلا يأخذ إلا إذا كان محتاجاً، وصاحب الحاجة تقضى حاجته، والملهوف يغاث، والمكروب تفرج كربته. فهل رأيتم أعظم وأحسن من هذا المجتمع؟ وهل سمعتم بمثله في شرق الدنيا أو غربها؟

أما في الآخرة فإن سلامة الصدر من أسباب دخول الجنة فعن أنس بن مالك قال: (كنا جلوساً مع الرسول فقال: [يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة]، فطلع رجل من الأنصار تنطُف لحيته من وضوئه قد علق نعليه في شماله، فلما كان الغد قال النبي مثل ذلك فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي مثل مقالته أيضاً فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النبي تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت. فقال: نعم، قال أنس: وكان عبد الله يحدث أنه بات عنده تلك الليالي الثلاث فلم يره يكثر من قيام الليل غير أنه إذا تقلب في فراشه ذكر الله - عز وجل - وكبر، حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الثلاث ليال، وكدت أحتقر عمله قلت: يا عبد الله إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر، ولكن سمعت رسول الله يقول لك ثلاث مرات يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلعت أنت الثلاث مرار فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه. فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق) [رواه الإمام أحمد].

وسلامة الصدر نعمة من النعم التي توهب لأهل الجنة حينما يدخلونها: \" وَنَزَعنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّن غِلٍّ, إِخوَاناً عَلَى سُرُرٍ, مٌّتَقَابِلِينَ \" [الحجر: 47] وسلامة الصدر راحة في الدنيا وغنيمة في الآخرة وهي من أسباب دخول الجنة.

وإن من أعظم النعم التي يتمتع بها أهل الجنة أنهم قد نزع الغل من صدورهم، ونسوا كل هموم الدنيا ومصائبها، وتخلصوا من كل حرمان أو نقص قاد إلى شحناء أو ضغينة، فصفت قلوبهم واطمأنت، فتقابلوا على الأرائك يتحدثون برضى وسرور، قد اذهب الله عنهم الحزن، وأحلهم دار المقامة ومقعد الصدق في جنات النعيم.

يقول ابن حزم - رحمه الله -:

رأيت أكثر الناس - إلا من عصم الله وقليل ما هم - يتعجلون الشقاء والهم والتعب لأنفسهم في الدنيا ويحتقبون عظيم الإثم الموجب للنار في الآخرة، بما لا يحظون معه بنفع أصلاً، من نيات خبيثة يضبّون عليها، من تمنى الغلاء المهلك للناس وللصغار، ومن لا ذنب له، وتمني أشد البلاء لمن يكرهونه، وقد علموا يقيناً أن تلك النيّاتِ الفاسدة لا تعجل لهم شيئاً مما يتمنونه أو يوجب كونه، وأنهم لو صفوا نياتهم وحسنوها لتعجلوا الراحة لأنفسهم وتفرغوا بذلك لمصالح أمورهم، ولاقتنوا بذلك عظيم الأجر في المعاد من غير أن يؤخر ذلك شيئاً مما يريدونه أو يمنع كونه، فأي غبن أعظم من هذه الحال التي نبهنا عليها؟ وأي سعد أعظم من الحال التي دعونا إليها؟

وكثير من الناس اليوم يتورع عن أكل الحرام أو النظر الحرام ويترك قلبه يرتع في مهاوي الحقد والحسد والغل والضغينة.

قال عبد الله الأنطاكي: إنما هي أربع لا غير: عينك ولسانك وقلبك وهواك، فانظر عينك لا تنظر بها إلى ما لا يحل، وانظر لسانك لا تقل به شيئاً يعلم الله خلافه من قلبك، وانظر قلبك لا يكون منه غل ولا حقد على أحد من المسلمين، وانظر هواك لا يهوى شيئاً من الشر فإذا لم يكن فيك هذه الخصال الأربع فاجعل الرماد على رأسك فقد شقيت).

وبعض الناس يظن أن سلامة القلب تعني أن يكون المرء أبله يسهل غشه وخداعه، وهذا غير صحيح، ولا مقبول.

قال ابن القيم - رحمه الله -: (الفرق بين سلامة الصدر والبله والتغفل: أن سلامة القلب تكون من عدم إرادة الشر بعد معرفته، فيسلم قلبه من إرادته وقصده، لا من معرفته والعمل به، وهذا بخلاف البله والغفلة، فإنها جهل وقلة معرفة، وهذا لا يحمد إذ هو نقص، وإنما يحمد الناس من هو كذلك لسلامتهم منه). والكمال أن يكون عارفاً بتفاصيل الشر سليماً من إرادته. قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (لست بالخبِ ولا الخب يخدعني). وكان عمر أعقل من أن يُخدع، وأورع من أن يَخدَع.

اللهم ارزقنا سلامة الصدور واجعلنا ممن يأتونك بقلب سليم. آمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply