قتلوا ابني فهل أسامحهم ؟!


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

في نحو الساعة الرابعة بعد صلاة العصر، كنت أجلس في غرفة الاستقبال مع اثنين من الأصدقاء يزورانني لأول مرة في منزلي. وكان ابني بسام يشارك في فعالية سوق خيري أقيم في ساحة مدرسته - مدرسة محمد علي عثمان الأهلية - حيث كانت عائدات السوق الخيري لصالح المدرسة. لذلك كان من الطبيعي أن يتأخر دون أن نشعر بالقلق لتأخر عودته إلى المنزل.

وبينما كنت أتجاذب أطراف الحديث مع الضيفين الكريمين، سمعنا صوت انفجارات ودمدمة طلقات أو دوي رصاص بشكل مخيف خرجت لأستوضح الأمر، وتبعني الضيوف وكان في انتظارنا منظر مرعب حيث كان جاري العجوز مسجى على الأرض ينزف بغزارة، كان يستغيث إشارة من يده التي رفعها عاليًا، بينما كان الناس في ذهول متجمعين حول مشهد آخر أشد فظاعة، حول جثة ابن الرجل نفسه وقد مزق الرصاص نسيج عنقه، مما جعله يبدو كما لو كان قد ذبح بآلة رديئة، مزقت رقبته شر ممزق.

اتصلت فورًا بقسم الإسعاف في المستشفى الذي كنت أديره قبل انتقالي إلى الإدارة العامة للشؤون الصحية في محافظة تعز، كما اتصلت أيضًا بشرطة النجدة فلم تمض سوى دقائق حتى وصل الإسعاف ووصلت النجدة.

ورغم الحزن على القتيل، شعرت بالارتياح أن استطعت بتوفيق من الله إسعاف الجريح قبل فوات الأوان.

وقبل أن أمد رجلي في العتبة راجعًا إلى البيت سمعت أحدهم يناديني دكتور...دكتور علي... أين بسام ولدك؟ قلت: في المدرسة سأل مرة أخرى: وأين سيارتك؟ قلت له: مع بسام في المدرسة.

قال: لقد رأيته هنا قبل قليل داخل السيارة، ثم رأيت السيارة تسير إلى الخلف ثم اختفت عن ناظري.. قلت له: شكرًا لك.. بسام هذا اليوم مشغول جدًا.. لا بد أنه عاد من جديد إلى المدرسة. بعد ذلك دخلت المنزل حيث كان ضيوفي قد سبقوني للجلوس فاعتذرت لهم عن انشغالي عنهم ورؤيتهم لهذه المنغصات.

وبعد قليل اتصل بي أحد الأصدقاء يسألني أيضًا عن بسام!

قلت له: في المدرسة.. في السوق الخيري.. قال: سمعت أنه في المستشفى: قلت له: يجوز أن يكون قد وجد أحد المصابين فكان حتمًا عليه أن يقوم بالواجب، ذلك ما كان عليه أن يفعله.. قال: بل هو أيضًا مصاب بجراح طفيفة - حتى لا يفزعني - ثم أخذ الصديق يحثني على أن أستوضح الأمر من قسم الإسعاف.

اتصلت من الفور بقسم الإسعاف، وكانت مفاجأة مذهلة كأنها الصاعقة خبر قاصم للظهر.. نازلة لم تخطر لي على بال، قال الطبيب المستلم: بسام عندنا هنا.. سألته: هل أوصل أحدًا؟ قال: هو مصاب. التجم لساني، احتبس الصوت في حلقي... سألت بوهن شديد هل ما زال على قيد الحياة؟ قال: إصابته خطيرة،

 

احضر حالاً، لا تتأخر. توقف مني التفكير، ثقل رأسي، أصبت بدوار وتبلد، شلت حركتي، إلا من حركة لا معنى لها ولا هدف.. تارة أجلس وأحيانًا أقف أتظاهر بالتماسك أمام ضيوفي الذين تملكتهم الحيرة، رغم أنهم لم يستوعبوا حجم المأساة بسبب تكتمي بكل ما سمعت، شتات ذهني لا مثيل له وقلق يعصف بالنفس والأعصاب، يفوق حدود قدرة الإنسان على التحمل.

كان بسام في السابعة عشرة من عمره. يعد نفسه لامتحانات الثانوية العامة وكان قد مضى ثلثا العام الدراسي.

وصلت قسم الإسعاف لأجد بسامًا فاقد الوعي.. كان في غيبوبة شديدة بسبب نزف شديد من مكان اختراق الرصاص. أخذت أناديه... لكنه لم يجب أيقنت أنه لا محالة مفارق الحياة وزاد من يقيني ذاك أن الجراح الصيني أخذ يبرطم ويشير بعينيه ويديه أن لا فائدة... فقد فات الأوان، لم يستطع أن يلتقط نبضاته، ولا استطاع أن يسجل أي رقم لضغطه، فقد هبط كل شيء إلى نقطة الصفر... لذلك أخذ الجراح الصيني يتمتم بعربية مكسرة: ما في فائدة... في مَوتوُ... في موتو. كدت أفقد عقلي وكنت على وشك أن يغمى عليّ من أثر الحزن والأسف لكنني مع ذلك لم أفقد الأمل: أخذت أدعو الله له بالحياة وأردد: لا حول ولا قوة إلا بالله عشرات المرات.

دخلت غرفة العمليات مع الجراحين بعد أن أرتديت بدلة معقمة من تلك التي يرتديها الجراحون، رغم أنني طبيب أطفال ولست جراحًا.

ورغم شرودي وشتات ذهني أخذت أتفحص كل شيء وأتابعه بعيون قلقة جف دمعها وقلب دام يكاد ينفطر حزنًا، شاهدت المشرط وهو يشق طريقه بين الضلوع، ثم بركة الدم في تجويف الصدر، حيث كان بعضه متجلطًا والبعض الآخر ما زال سائلاً قانيًا يملأ أكف الجراحين الذين أخذوا ينضحونه من التجويف الصدري ليلقوه في الدلال المعدة لاستقباله. شاهدت محاليل الدم والمحاليل الأخرى تنهال على القلب من أربعة مصادر في الأطراف العليا والسفلى.

رأيت الجراحين يرتقون جزءًا من الفص السفلي للرئة ويبحثون عن إصابات دامية أخرى. بدأت الحياة تدب من جديد، وبدأ التوتر في الوجه يحل محل الشحوب وإذا بعمر جديد يكتبه الله تعالت قدرته للولد بسام.

خرجت من غرفة العمليات، يكتفي رأسي بمشاعر الحمد والثناء لله الواحد الأحد فأنى لي أن أفي بحق المنعم المتفضل مهما اجتهدت في ذلك.

كان هناك عدد كبير من الناس خارج غرفة العمليات في انتظار أخبار المصاب.

أنا مدين لهم جميعًا، أسأل الله أن يجنبهم كل مكروه.

خرج بسام من المستشفى بعد سبعة أيام، ليجد كل أفراد أسرته يلهجون بالثناء للمولى - عز وجل - الذي أعاد له الحياة بعد أن كان الموت قد دنا منه وأحاطه من كل جانب فرأينا الله يستله منه مثل الشعرة من العجين. لكن الرصاصة كانت ما زالت مختبئة في مكان ما، لم يعثر عليها وهناك أيضًا تورم على ضفاف الجرح الطويل الذي يمتد من أعلى الصدر حتى حدود الضلوع السفلى الملاصقة للعمود الفقري من الخلف، فكان لا بد من نقله خارج البلاد لمواصلة معالجته.

استقبله الجراحون في مستشفى أهلي في جدة، وعنوا به عناية كبيرة، حيث وجدوا شظايا موزعة على مناطق

 

متعددة حول القلب والرئتين فتركوها موضعها. أما الرصاصة فقد وجدوها تختبئ في شحوم الكلية اليسرى، لكنها قبل أن تستقر هناك كانت قد «شطفت» جزءًا من الفص السفلي للرئة، فأعيد ترميمه أو تأهيله، وقد شاهد الجراحون مسارها كانت على وشك أن تتحرش بعضلات القلب لولا لطف الله وعنايته ما أخطأته أبدًا.

عندما عدت بالولد بسام من المملكة العربية السعودية، كانت الظروف مهيأة للحساب! حيث كانت النفوس معبأة للأخذ بالثأر، حيث اعتبر الكثيرون أن المسألة مقصودة، وأن هناك كانت نية للقتل لإخفاء معالم تفاصيل المعركة بين أفراد العائلة. واستدلوا على ذلك من كثرة الرصاص التي انهالت على سيارة بسام أثناء مروره أمام منزلهم، حيث شاهدهم يطلقون النار من مخبئهم فكان الشاهد الوحيد على مشاركة الإخوة في قتل أخيهم الكبير، في حين كانوا لا يريدون أن يعلم أحد أنهم قد شاركوا «في المعركة» فقد دبروا الأمر على يد أبيه، الذي وجد نفسه مضطرًا إلى أن يدافع عن نفسه ضد ابن عاق حاول قتل أبيه. وكان من حظ بسام أن شاهدهم من فوق سيارته وهم يطلقون النار من مخبئهم في ساحة منزلهم.

كانت تلك هي القصة التي وجدت الجميع من حولي يرددونها وفي مقدمتهم جهات أمنية وشخصيات اعتبارية لها وزنها وثقلها. كان الجميع يحثني على ألا أترك الجناة دون قصاص، لا بد أن يدفعوا ثمنًا باهظًا، ليس تجنيًا عليهم، بل إحقاقًا للحق، فقد أرادوا إزهاق نفس بريئة دون وجه حق.

كان الأخ محافظ المدينة في غاية الاستياء من فعلهم، وكان كذلك الإخوة في الأمن العام. فالظروف كلها كانت مهيأة ومواتية لإملاء الشروط والسير في طريق الانتقام.

كانت الظروف من حولي كلها تؤلب مشاعري وتدعوني للتشدد، تذكرت أنني كنت ودودًا معهم، وكان بسام هذا الذي أرادوا قتله صديقًا لهم، فكيف تسنى لهم أن يفعلوا به ذلكº فأي قسوة هذه التي تجعل الإنسان لا يعبأ بقتل النفس التي حرم الله قتلها، امتلأ قلبي بمشاعر القهر والاستياء.. كانت السلطات الأمنية قد احتجزت بعضهم على ذمة تسوية القضية بيني وبينهم.

دعي أطراف كثيرون لحضور «لقاء الصلح»... تآلبت على تفكيري يومذاك مشاعر القهر وسوء الظن بسلوك الناس وأخلاقهم وبقيتُ بين ضيوفي ساهيًا، شاردًا، تتنازعني الأفكار والهواجس... كنت أريد أن أترك وحدي لأبكي وأنعي على الإنسان نكرانه وجحوده لحقوق غيره فوجدت نفسي حقيقة أبكي من الداخل، بكاء مرًا، صامتًا، وعميقًا..

لم أرد أن يسمعه أو يراه غير الله، وكنت موفقًا في ألا يسمعني في بكائي الصامت غيره - تعالى -: ولما أراد الله لي المضي في طريق التسامح وجدت نفسي أستحضر كل ما حفظت من أمثلة ومقولات وأشعار حول التسامح والعفو عند المقدرة، لكنها لم تغنيني في شيء ولم تبرئ سقم نفسي، فهداني الله - تعالى -قدرته أن أتذكر ما جاء في كتاب الله عن الصابرين والعافين عن الناس وما قاله [في الترغيب في إصلاح «ذات البين» ولو كان المقام هنا يتسع لملأت عدة صفحات لما ألهمني الله - تعالى -تذكره في دقائق معدودة.

لكنني وقفت كثيرًا عند قوله - تعالى -: }ادفع بالتي هي أحسن... | وكثيرًا جدًا عند قوله - تعالى -: }إن الساعة لآتية، فاصفح الصفح الجميل| كنت كمن استيقظ من سبات عميق، كأنني أرى الأشياء لأول مرة على حقيقتها.

تذكرت على سبيل اليقين: أن لله حقوقًا علينا في أن نشكره الشكر الذي يليق به على نعمه التي لا تحصى.

 

ومن تلكم النعم إنقاذ «الولد بسام» من موت كان محققًا وليس أفضل من التسامح والصفح عند المقدرة تعبيرًا عن هذا الشكر لله.

تذكرت أن للجار أيضًا حقوقًا لا يحجبها عنه سوى فعله أو صنيعه، كما تذكرت حقوقًا للعقيدة فنحن لا نفتأ نردد في كل مناسبة ما تنطوي عليه عقيدتنا من معاني الصفح والتسامح.

كما أن للمجتمع الذي نعيش وسطه حقوقًا في أن يجد في سلوك بعض أفراده وفي سلوكهم صدى لما هو موجود في أحاديثهم وأقوالهم. بحيث لا يقتصر الأمر عند حدود الكلام.

رسخ في ذهني: إذا لم يكن تسامحي كاملاً، فإنني أشارك في إفساد كل هذه المعاني، لذلك أعلنت أمام الجميع تنازلي عن القضية ومسامحتهم في كل ما ألحقوه بنا من أضرار جسدية ونفسية ومالية وكنت مطمئنًا بما توصلت إليه من قرار، فلو أنني فتحت باب التعويض لما كانت ممتلكاتهم تكفي لتعويض أي جانب من هذه الجوانب الثلاثة حسب تقديرات بعض الناس.

لم أندم على حسم الموضوع على ذلك النحو، بل إنني أشعر بالفخر المتواضع وأشعر بالتوازن والثقة بالنفس كلما تذكرت تلك المأساة وكيف انتهت، حتى الذين كانوا متشددين ولم يرقهم موقفي عادوا بعد وقت غير طويل يعبرون عن تقديرهم واحترامهم للطريقة التي عالجت بها تلك القضية.

وقد ظلت محبوسة طي الكتمان منذ ذلك الحين (17 عامًا) حتى جاءت مجلة المعرفة تبحث عن نماذج إسلامية أو غير إسلامية في التسامح بين البشر.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply