الصمت اللعين


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

هنالك علامات فارقة خص الله بها أمتنا وجعلها مفاتيح الاستمرارية وجعل التمسك بها زمام القيادة وصلاح المجتمع.

 

صدق المقال وقول الحق رأس سنام خصائل الأمة المحمدية. وأن تقول الحق يختلف اختلافاً جوهرياً عن أن تتكلم بما هو حق أو تجيب عن سؤال بصدق.

 

 أن تقول حقاً هو أن تتلفظ بعبارات يمكن إثباتها ولا تنافي الواقع، ولكن التقيد بهذا المفهوم الضيق يتيح للإنسان أن يتفلت من مسؤوليته العظمى التي يدين بها لأمته ولربه وهي مسؤولية قول الحق. والحق المعروف هو تمام الحق وكماله بما يجزئ واقع الحال ويبين الحقيقة دون تورية أو شبهة لمظنة أخرى إبراءً للذمم وإلزاماً لكل نفس لأن تتحمل مسؤوليتها في إحياء الأمة وصيانتها.

 

 والطريف أن يلتفت القضاء بدقته إلى هذا المفهوم فيلزم من حضر مجلس القضاء من شهود وخصوم بقسم علني على قول الحق، كل الحق ولا شيء غير الحق، فلا يجوز أن يقول كذباً أو ما يتنافى مع واقع الحال كما لا يجوز له أن يختار من قول الحقيقة ما يشاء فيدلي ببعضه ويكتم بعضاً وفي نفس السياق لا يجوز له أن يُدخِل على الحقيقة والواقع ما ليس منه. وكل ذلك لتستبين الصورة وتتضح معالم الطريق لكي تقرر الحقوق وتنـزل الأشياء منازلها.

 

وهذا حال الإنسان وواقع مسؤوليته تجاه أخيه الإنسان إحقاقاً للحق وإزهاقا للباطل. وقد يظن أحدنا أن هذا ينحصر في إطار الحقوق الفردية والتي يعين فيها الإنسان بذاته ليكون شاهداً، بالحق فما بال الأمر إن كانت هذه الشهادة تخص شخصين أو ثلاثة، أوليس ذلك ادعى لإحقاق الحق، والتقدم بالشهادة لرفع مظلمة أو تعديل مسار قضية قد تؤثر على جمع من الناس؟. إنه سؤال يثير من كوامن النفس حرجاً شديداً، فالشاهد بالحق يدرك سريعاً أن التزامه بالشهادة وبيان الحقيقة الناصعة تتعدى حق أخيه الإنسان إلى مجتمعه وأمته.

 

فما أهمية قول الحق في سبيل الأمة وصلاحها إلا بقدر ما تكون الأمة مضاعفات للشخص الواحد الذي يتوجب عليه قول الحق في حاله ومآله حفظاً للحقوق من الضياع. وقد يهرب أحدنا من ثقل المسؤولية ليتستر خلف مفاهيم واهية مغلوطة وضعت في غير موضعها. فيقول أحدنا ما قاله سيدنا أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - \'\'من تمام كمال المرء وإيمانه تركه ما لا يعنيه\'\' فآثر الناس، جهلاً، ترك كل ما لا يمسهم مباشرة ظناً منهم في ظاهر حالهم أنه سمت المؤمن عوضاً عن أنه قد وافق هوى في نفسهم ذو رفع عن كاهلهم عناء المسؤولية والحاجة لأن يكونوا إيجابيين تجاه الآخر والمجتمع قولاً وفعلاً.

 

إن الهنة من الرجل إذ يقصّر أو يظلم أو يرضى بظلم أمر ذو بال ويمتد أثره ليمس المجتمع كله مؤثراً فيه، سواءً فطن المجتمع لذلك في الحال أم لم يفطن. فأثر الحصاة تلقى في الماء يظهر بعد حين عندما ترى تحرك الماء وقد غطى سطح البحيرة كلها. إن ترك ما لا يعنيك هو تركك للفضول ولمحاولة التعرف دون حاجة أو سبب وجيه على خصائص الإنسان وأسراره وما يقوم به في إطار حقوقه الخاصة وحريته الفردية. أما ما سوى ذلك فهو أمر يعني كل مسلم، الأقرب فالأقرب، بل قد يحمل الجماعة أن تلتزم برد فعل يكون فرض كفاية عليها وقد يرتقي لأن يكون فرض عين أيضاً. لقد استخف فرعون قومه فأطاعوه.

 

ما أعظم هذه العبارة والكلمات الربانية، هاهو ذا فرعون يؤسس لعلاقة ثنائية بينه وبين قومه بنيت على الكذب المتبادل في حين يعلم كلا الطرفين موقعه من معادلة الكذب. خافوه على مصالحهم الشخصية فصدّقوه ولم يَصدُقوه وعَرفَ فرعون فيهم هذه الرذيلة فاستغلها فكانوا أهون عليه من أن يلقى لهم بالاً أو يأخذ رأيهم في الاعتبار. لقد استخفهم فرعون في معادلة طرفيها كذاب أشر فتركه قومه يورد نفسه موارد الهلاك فإذا بهم يكونون معه من الغارقين.

 

ما أقبح الكذب وطأطأة الرؤوس والسكوت عن قول الحق والرضا بالظلم. بئس الحياة هي حياة أقدم فيها رفاهيتي وسلامتي الشخصية على ديني وحريتي وكرامتي وإنسانيتي. ألم يقل سيدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - \'\'الساكت عن الحق شيطان أخرس\'\'(1)؟ يا للعجب! يقول الساكت عن الحق ولم يقل، - صلى الله عليه وسلم -، الرافض لقول الحق والفرق بينهما جلي بيّن فالرافض لقول الحق هو من طلب منه أن يقول الحق لمعرفة الطالب بأنه على علم بالحقيقة وشاهد عليها.

 

 أما الساكت عن الحق فهو من يعرف الحق وشهد الحقيقة ولم يَطَّلع الناس أو يدروا بمعرفته هذه، فإن سكت عنها لم يطلب أحد منه أن يدلي بشهادته جهلاً منهم بما في علمه وإدراكه، ولن يلام على سكوته ممن كانوا بحاجة إلى موقفه وشهادته. ولكن سيدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرر عدم استحقاق الساكت عن الحق لإنسانيته وآدميته فينعته بشيطان أخرس.

 

وليس قول سيدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا امتداداً لقول الله - سبحانه وتعالى - (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) وكاتم الشهادة كالساكت عن الحق لا يختلف وصفه ورسمه وكلاهما في الميزان الرباني قد أثم وحمل وزراً ولم يؤد الأمانة التي استودعها الله في آدميته وإنسانيته. وليس للظالم المستكبر رادعاً يئد الظلم في مهده إلا أن يصرح الإنسان بقول الحق دون اعتبار للنتيجة والمآل طالما كان السكوت عن قول الحق يمس إنساناً آخر بظلم أو يؤدي إلى إفساد عام.

 

فالظالم سواء كان حاكماً أو سيداً في قومه أو ذا مال ونفوذ أو صاحب مسؤولية لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يستهين بنظرة الناس إليه ورأيهم فيه وموقفهم تجاهه. ولو أن قوم فرعون لم يطيعوه في تأليهه لنفسه وولوا وجوههم عنه، لوجد نفسه أعزل دون جيش أو حاشية أو خادم يصب له كأساً من ماء.

 

والطغاة أيها السادة أكثر الناس قلقاً وأشدهم انتباهاً لحالهم وتصرفاتهم، فيتمادون في جبروتهم وطغيانهم خوفاً من أن تسوِّل نفس أحد من اتباعهم أن يقول الحق أو أن يفشيه بين الناس فينفلت زمام الأمر من يده وينتهي به الحال حاكماً طاغية يشهد عليه سجله وماضيه ويلفظه قومه وشعبه. وقول الحق محور بقاء الأمة ومحور صلاح المجتمع وعموده. والأخذ على يد الظالم لا يبدأ إلا بقول الحق وشهادة الحق ورفض السكوت عن الباطل ورفض قبول الظلم والضيم مهما كلف الأمر.

 

فإن عجزت الأمة أن تقول للظالم (يا ظالم) فقد تودِّع منها فأصبحت هملاً لا يرتجى منها خيراً. وقد يقول القائل إن مقتضيات المصلحة أن لا تواجه الظالم بحقيقته وحقيقة ظلمه. ولكن التاريخ والقصص القرآني خير مرشد ودليل على أن السكوت على الظالم وعدم مواجهته بحقيقة أمره وبأن هذه الحقيقة قد عرفها عنه قومه، يجعل الظالم يتمادى في ظلمه وطغيانه ويزيد من تعسفه وجبروته.

 

فقول الحق دون تجميل أو مداهنة أو تورية هو الأساس وهو الدواء الأنجع والشافي لوأد الظلم والطغيان في مهده، وهو المانع لمتبعي الأهواء من اتباع أهوائهم. وأن تقول الحق هو أن تعلم الظالم الطاغية بأنك لا ترضى بظلمه على نفسك أو على غيرك. وأن يقول أكثر من شخص قول الحق هو إعلام للطاغية الظالم المتجبر بأن الناس مدركة لما هو عليه من طغيان وظلم وغير راضية عن ذلك.

 

 والإعلام بالأمر واجب كل مسلم تجاه أخيه المسلم وهو أوجب تجاه الحاكم الذي تشمل مسؤوليته الأمة جمعاء. وهذا رجل واجه السلطان بما يكره فذكر الحق عنده فغضب عليه السلطان فقتله فإذا به يجلس على أريكة يقابل مجلس سيد الشهداء حمزة - رضي الله عنه - وأرضاه في الجنة، لأنه صدح بالحق ولم يتلكأ ولم ينتظر حتى يحسب النتائج أو يتوارى خلف معادلات المصلحة المرجوة من قوله الحق.

 

فقد قال الحق ولم يعلم أحد بقوله، ولم يقدِّر له السلطان ذلك أو يرتدع عن الظلم بل تمادى في ظلمه وسفك دم الشاهد بالحق، ومع ذلك كان له أجر سيدنا حمزة على موقفه واتباعه للهدي الرباني والنبوي.

 

 فهذا الهدى هو الذي يحمي المجتمع من تمادي الطغاة واستخفافهم بقومهم. ولكل مقام مقال، فقول الحق يقتضي أن تقوله كما هو دون زيادة أو نقصان.

 

 أما أن تقوله على الملأ أو سراً أو التحدث برفق ولين أو بغلظة أو أن نقدمه في إطار نصيحة أو إنذار فهذا كله يتبع مقتضيات المقام والمقال وفداحة الظلم وعموم آثاره ومقتضيات رفعه. فالظلم الذي يقع على إنسان يواجه حد السيف وهو بريء يحتاج إلى تدخل سريع والظلم الذي يكون في العامة يحتاج أن يعالج على مستوى العامة وظلم الإنسان لنفسه يأتي في شكل النصيحة والتذكير بالله وكل ذلك يفرضه واقع الحال وواقع الصادح بالحق وواقع المتلقي له فالعالم غير العامي والجاهل غير المتعلم والحاكم الذي يظلم عن قصد متكبراً ومتجبراً غير الذي أمر بظلم وهو يظن بحق أنه يحسن صنعاً.

 

 ما أقبح الصمت وأرذل السكوت الذي يحول الإنسان والمجتمع إلى قطيع يساق نحو هلاكه ولا يستطيع أن يختار لنفسه غير ذلك، ويكتفي بالتمني وطلب النجاة، وإن هي إلا أمانيهم فعلام يتراجع مد الطغيان والاستكبار إن لم يجد في طريقه ما يصده عن ذلك. والله من وراء القصد

 

19/11/1425هـ

_________________

 (1) هذا ليس بحديث وإنما قول لأبي علي الدقاق انظر شرح الأربعين النووية حديث: \"من رأى منكم منكرا فليغيره....\".

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply