الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد بن عبد الله وآله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني أصرع وإني أتكشف، فادع الله لي. قال: \"إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك\" فقالت: أصبر. فقالت: إني أتكشف فادع الله لي أن لا أتكشف، فدعا لها.
هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه كتاب المرضى باب: \"فضل من يصرع من الريح برقم (5652)، وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب البر والصلة باب \"ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها برقم (2570)\" كما أخرجه الإمام أحمد في المسند برقم (3240).
راوي الحديث: هو حبر الأمة، وفقيه عصره وإمام التفسير، أبو العباس عبد الله ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العباس بن عبد المطلب شيبة بن هاشم، ولد بشعب بني هاشم قبل الهجرة بثلاث سنين، قال الذهبي: صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوا من ثلاثين شهرًا، وحدَّث عنه بجملة صالحة وعن عمر وعلي ومعاذ ووالده وعبد الرحمن بن عوف وأَبى سفيان صخر بن حرب وأبي ذر وأُبي بن كعب وزيد بن ثابت وغيرهم. وأمه هي أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية أخت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية. قال الذهبي: وكان وسيما جميلا مديد القامة، مهيبا كامل العقل ذكي النفس، من رجال الكمال. صح عنه - رضي الله عنه - أنه قال: \"كنت أنا وأمي من المستضعفينº أنا من الولدان وأمي من النساء\" يقصد قوله - تعالى -: إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا {النساء: 98}، كما صح عنه - رضي الله عنه - أنه قال: مسح النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسي ودعا لي بالحكمة. ودعا له بقوله - صلى الله عليه وسلم -: \"اللهم فقهه في الدين\" وفي زيادة: \"وعلمه التأويل\"، فكان ببركة دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - من أعلم الأمة بكتاب الله - تعالى - بحق كما كان من أفقه الصحابة ومن أعلمهم بالدين.
في قول البخاري في الترجمة: فضل من يصرع من الريح، قال الحافظ: \"انحباس الريح قد يكون سببا للصرع، وهو علة تمنع الأعضاء الرئيسية عن انفعالها منعا غير تام، وسببه ريح غليظة تنحبس في منافذ الدماغ، أو بخار رديء يرتفع إليه من بعض الأعضاء، وقد يتبعه تشنج في الأعضاء فلا يبقى الشخص معه منتصبًا بل يسقط ويقذف بالزَّبَد لغلظ الرطوبة، وقد يكون الصرع من الجن ولا يقع إلا من النفوس الخبيثة منهم. إما لاستحسان بعض الصور الإنسية وإما لإيقاع الأذية به، والأول هو الذي يثبته جميع الأطباء ويذكرون علاجه، والثاني يجحده كثير منهم، وبعضهم يثبته ولا يعرف له علاجًا إلا بمقاومة الأرواح الخيرة العلوية لتدفع آثار الأرواح الشريرة السفلية وتبطل أفعالها، وممن نص على ذلك أبقراط فقال لما ذكر علاج المصروع: هذا إنما ينفع في الذي سببه أخلاط، وأما الذي يكون من الأرواح فلا.
وقال ابن القي في الزاد بعدما ساق هذا الحديث: الصرع صَرعان: صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية، وصرع من الأخلاط الرديئة، والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه، وأما صرع الأرواح فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به، ولا يدفعونه، ويعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة، فتدفع آثارها، وتعارض أفعالها وتبطلها، وقد نص على ذلك بقراط في بعض كتبه، فذكر بعض علاج الصرع، وقال: هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة، وأما الصرع الذي يكون من الأرواح فلا ينفع فيه هذا العلاج.
وقال أيضا: وأما جهلة الأطباء وسَقَطُهم وسِفلَتهم، ومن يعتقد بالزندقة فضيلة فأولئك ينكرون صرع الأرواح، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع، وليس معهم إلا الجهل، وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك، والحس والوجود شاهد به، ثم قال: ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء وضعف عقولهم.
قال: وعلاج هذا النوع يكون بأمرينº أمر من جهة المصروع، وأمر من جهة المعالج، فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفسه وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها، والتعوذ الصحيح الذي تواطأ عليه القلب واللسان، فإن هذا نوع محاربة، والمحارب لا يتم له الانتصار على عدوه بالسلاح إلا بأمرينº أن يكون السلاح صحيحا في نفسه جيدًا، وأن يكون ساعده قويا، فمتى تخلف أحدهما لم يُغنِ السلاح عنه شيئا، فكيف إذا عدم الأمران جميعا: يكون القلب خرابًا من التوحيد والتوكل والتقوى والتوجه، ولا سلاح له.
والأمر الثاني وهو الذي من جهة المعالج وهو أن يكون فيه هذان الأمران أيضا. {انتهى من زاد المعاد بتصرف يسير}
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: \"وفي الحديث فضل من يصرع، وأن الصبر على بلايا الدنيا يورث الجنة، وأن الأخذ بالشدة أفضل من الأخذ بالرخصة لمن علم من نفسه الطاقة ولم يضعف عن التزام الشدة، وفيه دليل على جواز ترك التداوي، وفيه أن علاج الأمراض كلها بالدعاء والالتجاء إلى الله - تعالى - أنجح وأنفع من العلاج بالعقاقير، وأن تأثير ذلك وانفعال البدن عنه أعظم من تأثير الأدوية البدنية، ولكن إنما ينجع بأمرين: أحدهما من جهة العليل، وهو صدق القصد والآخر من جهة المداوي وهو قوة توجهه وقوة قلبه بالتقوى والتوكل. والله أعلم
وأما قولها: \"وإني أتَكَشَّفُ\" بالتاء وتشديد الشين من التكشف، وبالنون الساكنة من الانكشاف، والمراد أنها خشيت أن تظهر عورتها وهي لا تشعر.
قال الحافظ: وعند البزار من وجه آخر عن ابن عباس في نحو هذه القصة أنها قالت: \"إني أخاف الخبيث أن يجردني، فدعا لها فكانت إذا خشيت أن يأتيها تأتي أستار الكعبة فتتعلق بها\".
وانظر أخي المسلم وتأمل، ولتتأمل نساء المسلمين في قوة يقين هذه المرأة وشدة حرصها على الجنةº فهي تختار الجنة مع صبرها على المرض مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خيرها بين الدعاء لها بالشفاء وبين الصبر فتختار الصبر على المرض وتعاني منه وتكابده وذلك في سبيل دخولها الجنة في الآخرة، ولكنها لم تصبر على التكشف، ولم ترض بانكشاف شيء من جسدها ولم تصبر عليه، مع أنها معذورة في ذلك إنما يحدث لها الانكشاف وهي مصروعة غير مدركة، والمريض ليس عليه حرج كما قال ربنا - جل وعلا -: ولا على المريض حرج {النور: 61}، ولكنها مع ذلك لم تصبر على التكشف، فما بال نساء المسلمين اليوم، يتكشفن بإرادتهن، بل تتفنن الواحدة منهن في التكشف وإظهار مفاتن جسدها للرجال من غير صرع ولا مرض، وليس لهن من عذر ولا بهن من جنون، ضاربات بأوامر الله - تعالى - وأوامر رسوله - صلى الله عليه وسلم - عُرض الحائط، وكأنهن لا يعرفن من الإسلام إلا اسمه، وكأنهن لا يؤمن بالله ولا برسوله ولا يصدقن كتابًا ولا سنة، وكأن وحي الله - عز وجل - الذي يتلى على مسامع القوم صباحًا ومساءً لا يخاطبهم رجالا ونساءً، وإنما يخاطب عالمًا آخر غيرهم، وهذا القرآن الذي يبث إليهم ولا يستمعون إليه ولا ينصاعون ولا يستجيبون له هو حجة الله - تعالى - عليهم وهو معروض عليهم ليلا ونهارًا، وهم معرضون عنه ولذلك كان هذا الشقاء والبلاء الذي يعيشه المسلمون قال - تعالى -: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى (124) قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا (125) قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى {طه: 124-126}، أو أن الأمر كما يقول ابن القيم - رحمه الله - تعالى -: وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله تكون من جهة قلة دينهم، وخراب قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذكر والتعاويذ والتحصنات النبوية والإيمانيةº فتلقى الروحُ الخبيثة الرجل أعزل لا سلاح له، وربما كان عريانا فيؤثر فيه هذا، ولو كشف الغطاء لرأيت أكثر النفوس البشرية صرعى هذه الأرواح الخبيثة، وهي في أسرها وقبضتها تسوقها حيث شاءت، ولا يمكنها الامتناع عنها ولا مخالفتها، وبها الصرع الأعظم الذي لا يُفيق صاحبه إلا عند المفارقة والمعاينة (يعني عند الموت) فهناك يتحقق أنه كان هو المصروع حقيقة، والله المستعان.
وقال أيضا: وعلاج هذا الصرع باقتران العقل الصحيح إلى الإيمان بما جاءت به الرسل، وأن تكون الجنة والنار نُصبَ عينيه وقبلة قلبه، ويستحضر أهل الدنيا، وحلول المثلات والآفات بهم، ووقوعها خلال ديارهم كمواقع القطر، وهم صرعى لا يفيقون، وما أشد داء هذا الصرع، ولكن لما عمت البلوى به بحيث لا يُرى إلا مصروعا، لم يصر مستغربا ولا مستنكرًا، بل صار لكثرة المصروعين عين المستنكر والمستَغرَب خلافه.
فإذا أراد الله بعبدٍ, خيرًا أفاق من هذه الصرعة، ونظر إلى أبناء الدنيا مصروعين حوله يمينا وشمالا على اختلاف طبقاتهم، فمنهم من أطبق به الجنون، ومنهم من يفيق أحيانا قليلة، ويعود إلى جنونه، ومنهم من يفيق مرةً ويُجَنٌّ أخرى فإذا أفاق عمل عمل أهل الإفاقة والعقل، ثم يعاوده الصرع، فيقع في التخبط. ا- هـ
بهذا الوصف يصف ابن القيم أهل الدنيا في زمانه، فما باله لو رأى أهل عصرنا الذي نعيش فيهº تنكر كثير من المسلمين لدينهم وانخدعوا بما زينه لهم شياطين الإنس والجن وراحوا ضحايا هذا التخبط والتيه في ظلمات الجهل بدينهم وبكتاب ربهم وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، ولو كانوا من المثقفين والمتعلمين الذين نالوا أعلى الشهادات وتبوءوا أعظم المنازل والدرجات فإنما ذلك شأنهم في الدنيا وأما عن الآخرة فهم غافلون، وأما ما يفعله البعض الآن من القراءة علي المرضى وخاصة المرأة يقرأ عليها ويرقيها رجل من غير محارمها وربما كشف عن شيء من جسدها وما يترتب على ذلك من المفاسد التي تملأ السمع والبصر فهذا مما لا يقره دين ولا عقل، ولا يجوز للمسلمة التي تخشى الله - عز وجل - وتتقيه أن تذهب أو يذهب بها وليها إلى رجل ليقرأ عليها، فإن قراءة المعوذات وآية الكرسي يستطيعها كل مسلم، فإن كانت المرأة لا تستطيع القراءة فليقرأ عليها أحد محارمها، وأما التهاون في هذا الأمر فإنه يؤدي إلى مفاسد دينية وخلقية، وربما أدَّى إلى ارتكاب الفواحش، وامتهان الدجل والشعوذة، فالمرأة المصابة الصرع في هذا الحديث لم تطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرقيها، ولا هو - صلى الله عليه وسلم - أرشدها إلى ذلك، بل طلبت أمرًا مشروعا وهو الدعاء، ومع ذلك أرشدها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما هو خير لها من الدعاء، وهو الصبر لتنال جنة ربها.
نسأل الله - سبحانه وتعالى- أن يهدي ضال المسلمين وأن يشفي صرعاهم ومرضاهم، وأن يردهم إلى دينه ردًا جميلا إنه بهم رءوف رحيم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد