الأسرة المسلمة الاختلاف وثماره الخبيثة


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فقد خلق الله - تعالى -الخلق ليعبدوه وبالإلهية يفردوه، ثم إنه - جل وعلا - لم يتركهم سدى وهملاً، بل أرسل إليهم الرسل، وأنزل إليهم الكتب بالحق للحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ثم إن الله - تعالى -حرم التنازع والفرقة وبين أنها بذور الفشل وذهاب الريح والراية، وتفصيل ذلك في الكلمات التالية:

 

العاقبة السيئة للاختلاف:

عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: «سمعت رجلاً يقرأ آية وسمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ خلافها، فجئت به النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: «كلاكما محسن، ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا». [صحيح البخاري ح3289].

فانظر أخي كيف تغير وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رأى الاختلاف على شيء يحتمل السؤال، ويحتمل إرادة الفهم والاستفسار، فكيف بتصعيد الاختلاف حتى تتقطع الصلات والأرحام؟!

 

1- مضار الاختلاف على الطعام:

وهذا أيضًا أثر من آثار الاختلاف السيئة تظهر في طريقة تناول الطعام.

عن وحشي بن حرب عن أبيه عن جده: أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: يا رسول الله، إننا نأكل ولا نشبع، قال: «فلعلكم تفترقون؟ » قالوا: نعم. قال: «فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه». قال أبو داود: إذا كنت في وليمة فوضع العشاء فلا تأكل حتى يأذن لك صاحب الدار. [سنن أبي داود (3764)، وقال الشيخ الألباني: حسن].

والإذن والاستئذان في الطعام نوع من الاجتماع وعدم الافتراق بحيث لا يفعل المرء الشيء من تلقاء نفسه إلا أن يؤذن له.

قالوا: يا رسول الله، إنا نأكل ولا نشبع، والشبع نقيض الجوع، فقال: «لعلكم تفترقون» أي: حال الأكل بأن كل واحد من أهل البيت يأكل وحده، وَاذكُرُوا اسمَ اللَّهِ عَلَيهِ أي في ابتداء أكلكم «يبارك لكم فيه» أي في الطعام. فقد روى أبو يعلى في مسنده وابن حبان والبيهقي والضياء عن جابر مرفوعًا: «أحب الطعام إلى الله ما كثرت عليه الأيدي». وروى الطبراني عن ابن عمر موقوفًا: «طعام الاثنين يكفي الأربعة وطعام الأربعة يكفي الثمانية فاجتمعوا عليه ولا

تفرقوا». وأما قوله - تعالى -: لَيسَ عَلَيكُم جُنَاحٌ أَن تَأكُلُوا جَمِيعًا أَو أَشتَاتًا فمحمول على الرخصة أو دفعًا للحرج عن الشخص إذا كان وحده.

وذُكر عن الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - أنه قال: وحشي بن حرب شامي تابعي لا بأس به. [عون المعبود 10/170].

2- مضار التفرق عند النزول في الشعاب والأودية:

وحتى في نزول الأماكن منع الإسلام التفرق وجعل ذلك من صنع الشيطان وطاعته ووسوسته وكيده.

عن أبي ثعلبة الخشني قال: كان الناس إذا نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزلاً تفرقوا في الشعاب والأودية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان»، فلم ينزل بعد ذلك منزلاً إلا انضم بعضهم إلى بعض حتى يقال لو بسط عليهم ثوب لعمهم. [سنن أبي داود (ح2628)، قال الشيخ الألباني: صحيح].

وهنا يظهر مدى استجابة الصحابة رضوان الله عليهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الاجتماع وترك الفرقة.

 

3- التفرق عند حدوث المصائب العامة:

وأشد مما سبق التفرق عند نذير الأمن أو الخوف الذي يتصل بجمع المسلمين عمومًا.

أ- عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: أن عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجنادº أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي الأنصار فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم فلم يختلف منهم عليه رجلان فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إني مُصبح على ظهر فأصبحوا عليه، قال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارًا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟! نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديًا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبًا في بعض حاجته فقال: إن عندي في هذا علمًا، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه». قال: فحمد الله عمر ثم انصرف. [متفق عليه].

قصد عمر - رضي الله عنه - الرجوع أولاً بالاجتهاد حين رأى الأكثرين على ترك الرجوع مع فضيلة المشيرين به وما فيه من الاحتياط، ثم بلغه حديث عبد الرحمن فحمد الله تعالى وشكره على موافقة اجتهاده واجتهادِ معظم أصحابِهِ نَصَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -...أما العدوة فبضم العين وكسرها وهي جانب الوادي، والجدبة: ضد الخصيبة.

أما قول عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدةº فجواب لو محذوف، وفي تقديره وجهانº

أحدهما: لو قاله غيرك لأدبته لاعتراضه عليَّ في مسألة اجتهادية وافقني عليها أكثر الناس وأهل الحل والعقد فيها، والثاني: لو قالها غيرك لم أتعجب منه وإنما أتعجب من قولك أنت ذلك مع ما أنت عليه من العلم والفضل، ثم ذكر له عمر دليلاً واضحًا من القياس الجلي الذي لا شك في صحته، وليس ذلك اعتقادًا منه أن الرجوع يرد المقدور، وإنما معناه أن الله - تعالى -أمر بالاحتياط والحزم ومجانبة أسباب الهلاك، كما أمر - سبحانه - بالتحصن من سلاح العدو وتجنب المهالك وإن كان كلُّ واقعًا فبقضاء الله وقدره السابق في علمه، وقاس عمر على رعي العدوتين لكونه واضحًا لا ينازع فيه أحد مع مساواته لمسألة النزاع.

وصدق الله - تعالى -إذ يقول: وَإِذَا جَاءَهُم أَمرٌ مِنَ الأَمنِ أَوِ الخَوفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَو رَدٌّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمرِ مِنهُم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَستَنبِطُونَهُ مِنهُم وَلَولاَ فَضلُ اللَّهِ عَلَيكُم وَرَحمَتُهُ لاَتَّبَعتُمُ الشَّيطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء: 83].

فانظر أخي - رحمني الله وإياك - كيف اجتمع شمل المسلمين في مثل هذه الحادثة مع تباين الآراء فيها وتضادها، وكيف التفوا حول أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - فكان في اجتماعهم خير وبركة، ودحرٌ للشيطان وأعوانه؟ والأجمل أيضًا التزامهم النص الشرعي، فلم يكن النص في واد، والناس في واد آخر، وإنما ساروا مع الكتاب حيث سار، وداروا مع النص حيث دار، عليهم رحمات ربنا العزيز الغفار.

فهل يستطيع الناس في زمننا إذا حدث شيء من هذا - لا قدر الله - أن يحكمهم النص الشرعي؟! أم أنه سيكون لكل واحد منهم وجهة هو موليها؟ ولسان حاله بل ومقاله: نفسي نفسي.

ب- والتفرق يظهر أثره ويستبين ضرره، ويشتد خطره كما في هذه الحادثة: يقول أبو حميد الساعدي - رضي الله عنه -: غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة تبوك، فلما أتينا تبوك قال: «أما إنها ستهب الليلة ريح شديدة فلا يقومن أحد، ومن كان معه بعير فليعقله، فعقلناها»، وهبت ريح شديدة فقام رجل فألقته بجبلي طيّ. [صحيح البخاري]، وفي هذا بيان أن من اجتمعوا على توجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - سلموا من المكروه، ومن شذ عن المجموع لحقه عاقبة شذوذه».

 

4- الاختلاف في الصلاة:

عن أبي مسعود - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح مناكبنا في الصلاة

ويقول: «استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم». قال أبو مسعود: فأنتم اليوم أشد اختلافًا. [مسلم ح432].

وكيف يقال عنا اليوم مقارنة بزمن أبي مسعود، ومقارنة بزمن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟!

وعن عبد الله - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، وإياكم وهيشات الأسواق». هيشات الأسواق: أي اختلاطها والمنازعة والخصومات وارتفاع الأصوات. [صحيح أبي داود ح627].

ويقال مثل هذا للمختلفين في المساجد، المتنازعين والناس ما بين راكع وساجد، الرافعين أصواتهم بالشقاق والمفاسد، فهل يصلح أن تكون المساجد أسواقًا؟

 

5- أشد الاختلاف وأشره:

وأشد مما سبق - على خطورته - الافتراق في الدين بالابتداع، والاعتقادات المنحرفة ومخالفة ما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.

عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة». [سنن ابن ماجه ح3993، وسنن أبي داود، قال الشيخ الألباني: صحيح].

المراد: أمة الإجابة، وهم أهل القبلة، فإن اسم الأمة مضافًا إليه - صلى الله عليه وسلم - يتبادر منه أمة الإجابة، والمراد تفرقهم في الأصول والعقائد لا الفروع والعمليات. [سنن ابن ماجه ح3991].

قال شمس الحق أبو الطيب في شرحه عون المعبود: «افترقت اليهود» إلخ. هذا من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - لأنه أخبر عن غيب وقع، وقد ألف الإمام أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي في شرح هذا الحديث كتابًا قال فيه: قد علم أصحاب المقاولات أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يُرد بالفرق المذمومة المختلفين في فروع الفقه من أبواب الحلال والحرام، وإنما قصد بالذم من خالف أهل الحق في أصول التوحيد، وفي تقدير الخير والشر، وفي شروط النبوة والرسالة، وفي موالاة الصحابة، وما جرى مجرى هذه الأبواب، لأن المختلفين فيها قد كفَّر بعضهم بعضًا، بخلاف النوع الأول فإنهم اختلفوا فيه من غير تكفير ولا تفسيق للمخالف فيه، فيرجع تأويل الحديث في افتراق الأمة إلى هذا النوع من الاختلاف، وقد حدث في آخر أيام الصحابة خلاف القدرية من معبد الجهني وأتباعه ثم حدث الخلاف بعد ذلك شيئًا فشيئًا إلى أن تكاملت الفرق الضالة اثنتين وسبعين فرقة والثالثة والسبعون هم أهل السنة والجماعة وهي الفرقة الناجية. انتهى باختصار يسير.

وعن أبي عامر عبد الله بن لحي قال: حججنا مع معاوية بن أبي سفيان، فلما قدمنا مكة قام حين صلى صلاة الظهر، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني الأهواء - كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه (أي ممن عضه الكلب) عرق ولا مفصل إلا دخله، والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم - صلى الله عليه وسلم - لَغَيرُكُم من الناس أحرى أن لا يقوم». [مسند أحمد بن حنبل ح16979].

قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وإن هذه الملة» يعني أمته - صلى الله عليه وسلم - «وهي» أي الواحدة التي في الجنة «الجماعة» أي أهل القرآن والحديث والفقه والعلم الذين اجتمعوا على اتباع آثاره - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأحوال كلها ولم يبتدعوا بالتحريف والتغيير، ولم يبدلوا بالآراء الفاسدة (تجارى) بحذف إحدى التاءين أي تدخل وتسري (تلك الأهواء) أي البدع (كما يتجارى الكَلَب) بالكاف واللام المفتوحتين، داء يعرض للإنسان من عض الكَلبِ الكَلِبِ، وهو داء يصيب الكلب فيصيبه شبه الجنون فلا يعض أحدًا إلا كَلَب، ويعرض له أعراض ردية، ويمتنع من شرب الماء حتى يموت عطشًا. كذا في النهاية. [عون المعبود 12/223].

وفي تحفة الأحوذي (7/334):«إلا أهل ملة». قالوا: من هي؟ أي تلك الملة - أي أهلها - الناجية. قال: «ما أنا عليه وأصحابي» أي هي ما أنا عليه وأصحابي.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply