صاحب كهموم النفس معترض * * * ما بين ترقوة مني وأحشــاء
إن قال خيرا فعن سوء ألّم بـه * * * أو قال شرا فعن قصد وإمضاء
لا يفعل السوء إلا بعد مــقدرة * * * ولا يكفكــف إلا بعــد إيذاء
تراه مبتسما ودودا يذوب رقة وعطفا إذا كنت بجواره تحادثه أو تبثه شيئا من هموم الحياة أو تخبره بخير حزته إلى جيبك أو أودعته في رصيدك، وهو في داخل نفسه يبكي بكاء مرا يأكل بعضه بعضا، يود لو قفز فوق بطنك وعصرها، وقضم أنفك وقطع أذنك وجمد أرصدتك وسلبك روحك التي تتردد بين جنبيك، يجيل عينيه في بيتك ويتعجب من فخامة السجاد، وجودة الكنب ودقة اختيار الألوان، ثم يقول ولكنك تسرف يا أخي الكريم وهو في نفسه يقول: كم أتمنى اللحظة التي أراك فيها تمد يدك إلى الناس مستعطيا!!
إذا تناقشت معه في مسألة من مسائل الحياة أو مسائل العلم، مصمص شفتيه وزمهما وتلمظ ثم أخذ يدهور الألفاظ في شدقيه وكأن الله لم يخلق على الأرض علما غيره فلو ذهب أو مات لكان في الدنيا نقص لا تتممه إلا الآخرة، فإذا شاكسته وتتبعت غلطاته وكشفتها له وبينت بهرجه، أنف وغضب ولم يلو على شيء وأخذ يكيل لك (على قفا الصاع) مبينا جهلك تارة وخرقك أخرى وحسدك ثالثة ولا يزال هذا دأبه حتى تتركه لسمائه يرعد فيها ويبرق!!
ثم لا تلبث إلا قليلا وإذا هو بشحمه ولحمه وحسده قد تبعك إلى بيتك يتأسف على عجلته واحتداده، وأخذ يبن لك أن السبب الرئيس في ثورته هو الانتصار للحق وأن نفسه كسلسل الماء الصافي ليس فيها أدنى تشويش أو تهويش!!
يسمع بأنك مرضت أو أصبت بحادث فيهرع إليك متأسفا على حالك، ذارفا شيئا من دموع مستعارة بين يديك ويقول لك: إن المؤمن يحمل كنزه في جلده ولا تكون نفقته إلا على الابتلاءات وبذلك يعظم الكنز وتتدفق عليه الهبات الإلهية، فتعجب من كلامه الموغل في التصوف والزهد والوعظ ثم ترى في عينيه أعراس البهجة والحبور بما آل إليه أمرك، وكم كان يتمنى أن علتك لا يزيلها إلا هاذم اللذات!!
وَصَاحِبٍ, لا كَانَ مِن صَاحِـبٍ, * * * أَخلاقُهُ كَالمِعدَةِ الفَاسِــدَه
أَقبَحُ مَا فِي النَّاسِ مِـن خَصلَةٍ, * * * أَحسَنُ مَا فِي نَفسِهِ الجَامِدَه
لَو أَنَّهُ صُوِّرَ مِــن طَبعِــهِ * * * كَانَ لَعَمرِي عَقرَباً رَاصِدَه
يَصلُحُ لِلصَّفعِ لِكَيلا يُـــرَى * * * فِي عَدَدِ النَّاسِ بِلا فَائِـدَه
تصلك الأخبار تترى من أصدقاء خلص وأقارب ثقات بأن فلانا يكتب فيك التقارير ويرسم لك نعشك عند الحاكم ويحيك لك الكفن بمغزل الكذب، تقارير لو كتبت لدولة عن دولة لأشعلت حربا ضروسا تأكل الرؤوس، ثم إذا واجهته وضرب الحديث بينكما بسهمه، قلت له يا فلان، ألا ترى إلى حقارة الدنيا وأهلها، كيف يبيع الصديق صديقه برتبة زائلة ومال ذاهب ومكانة زائفة يزل عنها صاحبها كما تزل الرجل لامست الصابون، هذا فلان أتعرفه قد سعى بصديق عمره إلى الحاكم بأشياء مفتراة وقصص تخجل الهمذاني والحريري، يريد بذلك قتل صاحبه أو حبسه وأن تكون له حظوة عند الحاكم يرفه بها عن نفسه الصفراء؟؟
فيجيبك على البديهة وبكل بساطة وسلاسة: بأن فلانا إنسان حسود قد حل في قلبه قافلة من الإبل لا تتركه حتى تعلمه كيفية صناعة حطب جهنم من جسم عريض!!
إن الصداقة هي أسمى ما في الوجود حاشا عبادة الله ولولاها ما أحسسنا بأننا نعيش حياتنا بالعرض كما كان يقول ابن سينا، يا صاحبي خذني على سبيل المثال: أنا لا أعدل بصحبتك كنوز الدنيا ولو اضطرتني الحكومة إلى الكلام عنك لما قلت لهم غير الذي في بطاقتك الشخصية ولتركتهم لوساوس الشيطان يخلق لهم بها الأعيب يتسلون بها فلا هي تنتهي ولا هم يرعوون حتى تأخذهم صيحات الملائكة من أقطار الأرض!!
رباه، رباه، رباه، كيف لي أن أتغلب على حيائي لأكيل له لكمة تقترض نصف أسنانه إلى أجل غير مسمى، لقد أصبح لي هذا الصاحب شيئا خياليا لا أحس بوجوده جسدا بل معان من النار تأخذ علي الأرض من جهاتها وأنا بين ذلك أرقص كإفريقي بدائي يعلن عن جهله بنفسه وبمن حوله!!!
ورحمة الله السابغة على البارودي يوم قال:
تَغَيَّرَ النَّاسُ عَمَّا كُنـتُ أَعهــَدُهُ * * * فَاليَومَ لا أَدَبٌ يُغنِــي وَلا فِطَـــنُ
فَالخَيرُ مُنقَبِضٌ وَالشَّرٌّ مُنبَسـِطٌ * * * وَالجَهــلُ مُنتَشِرٌ وَالعِلــمُ مُندَفِــنُ
لَم تَلقَ مِنهُم سَلِيماً فِي مَوَدَّتِـهِ * * * كَأَنَّ كــُلَّ امــرِئٍ, فِي قَلبِــهِ دَخَنُ
طَوَاهُمُ الغِلٌّ طَيَّ القدِّ وَانتَشَـرَت * * * ِالغَدرِ بَينَهُــمُ الأَحقَــادُ وَالدِّمَــنُ
فَلا صَدِيقَ يُرَاعِي غَيبَ صَاحِبـِهِ * * * وَلا رَفِيــقَ عَلَى الأَسرَارِ يُؤتَمَــنُ
بَلَوتُهُم فَسَئِمتُ العَيشَ وَانصَرَفَت * * * َفسِي عَنِ النَّاسِ حَتَّى لَيسَ لِي شَجَـنُ
فَإِن يَكُن فَاتَنِي مَا كُنتُ أَملُكــُهُ * * * فَالبُعدُ عَنهُــم لِمَا أَتلَفتُــهُ ثَمــَنُ
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد