في الساحة الإسلامية العامة دعوة عريضة لتوحيد الأمة في كيان سياسي واحد، وفي ساحة الصحوة والدعوة هناك دعوة مماثلة لتوحيد العمل الإسلامي، أو على الأقل العمل على تقريب توجهاته ومناهجه، ولكن الواقع يشهد أن الاستجابة لكلتا الدعوتين تقترب من العدم، مع أن ولاء المسلمين قاطبة كان على مدار التاريخ للأمة، وليس للدولة القطرية، ومع أن لدى الإسلاميين الكثير من النصوص والمقولات التي تؤكد على وحدة الكلمة ونبذ الخلاف والفرقة، فلماذا لم تتحقق هذه التطلّعات؟
في البداية لا بد من القول: إنني لا أحكم هنا على مدى واقعية الدعوة إلى توحيد الأمة تحت لواء سياسي واحد، ولا توحيد الجماعات الإسلامية في أي بلد من البلدان الإسلامية تحت إمرة قيادة واحدة، فهذه مسألة تحتاج إلى نقاش معمَّق، لكن أود هنا أن أشير إلى مرض اجتماعي واسع الانتشار على صعيد الأمة بشكل عام، وعلى صعيد الجماعات الإسلامية على نحو خاص.
وهذا المرض والذي هو (التعصب) يشكّل عائقاً أساسياً أمام كل أشكال التقارب بين الأفراد والجماعات والشعوب والمؤسسات..وذلك لأنه يكرِّس أسباب الفرقة، ويهدم ما هو موجود من أركان اللقاء والوحدة والتعاون.وهذه بعض الملاحظات الجوهرية في هذا الشأن:
للتعصّب علاقة لغوية بـ (العصبيّة)، ومعناها أن يدعو الرجل إلى نصرة (عُصبته) أي قرابته من جهة أبيه الذين يتعصّبون له وينصرونه- والتألّب معهم على من يناوئهم ظالمين كانوا أو مظلومين.
إن المتعصّب لشيء أو ضده يتسم بالعاطفة الشديدة والميل القوي، فهو في حالة التعصب لقومه أو جماعته أو وطنه أو أفكاره.. لا يرى فيما يتعصّب له إلا الإيجابيات والمحاسن، وفي حالة التعصّب ضد شيء مما ذكرناه، فإنه لا يرى المعايب والسلبيات، وهذا يعني أن المتعصّب مصاب بـ (عمى الألوان). والمتعصّب إنسان غارق في أهوائه وعواطفه، على مقدار ضعفه في استخدام عقله، ولا يعني ذلك أنه لا يفكر، إنه يفكر، ولكن الأفكار التي تتمحض تتمخض عن تشغيل عقله، يتم إنتاجها في إطار العواطف الجامحة التي لديه، وتكون مهمتها الأساسية ليس ترسيخ الاعتدال والإنصاف، وإنما التسويغ للميول والعواطف العمياء التي تغلي في صدر الإنسان المتعصّب!
لا يحبّ المتعصّب المناظرةº لأن التعصّب الذي لديه يوحي إليه بأنه على الحق الواضح الذي لا يقبل النقاش، لكن المتعصّب يحب الجدال بالباطل الذي يقوم على أسس غير موضوعية وغير عقلانية. والإنسان المتعصّب بعد هذا وذاك إنسان عجول، يُصدر الأحكام على الناس من غير فحص للأدلة والبراهين والأسس التي تقوم عليها تلك الأحكام، إنه مع قومه فيما يحبون ويكرهون، ومع جماعته فيما تقدم عليه، وفيما تحجم عنه، وهم في كل ذلك على صواب، ولا يحتاج ذلك إلى أدلة، على حد قول الشاعر:
لا يسألون أخاهم حين يندبُهم * * * في النائبات على ما قال برهانا
ومن لوازم التعصّب ومكوناته بالإضافة إلى ما أشرنا إليه- الآتي:
الجمودº إذ إن المتعصّب يلازم الأفكار الموروثة حول ما يتعصّب له، فإذا كان يتعصّب لبلده، فإنه يحفظ كل ما قيل في فضائله بقطع النظر عن صحته، ولا يفتح عقله للتعامل مع المقولات الجديدة حول ذلك البلدº فهو بلد الصدق والأمانة والشهامة والكرم.. وإن كان الناس من حوله يلاحظون أن وجود هذه الفضائل نسبي، وأن بين أبناء بلده من ليس صادقاً ولا أميناً ولا كريماً...
من مكونات التعصّب ولوازمه التفكير غير المنطقيº إذ تنطمس الأسباب عند الحديث عن المشكلات، ويختل الربط بين المقدمات والنتائج، فإذا حدثت محنة عظيمة لجماعة المتعصّب فإن تلك المحنة ليست بسبب سوء تقديرها للأمور، أو بسبب أخطاء تربوية أو تنظيمية أو بسبب أخطاء إستراتيجية.
إن كل هذه الأخطاء لا يستطيع المتعصّب رؤيتها، ولهذا فالمحنة التي وقعت هي بسبب مؤامرة كبرى تعرّضت لها الجماعة أو بسبب وشاية من جماعة منافسة، أو بسبب عدم التزام بعض أبنائها بالتعليمات.. وحين يُنبَّه المتعصّب إلى أن السلوك الفلاني سيؤدي إلى كذا وكذا، فإن المتعصّب يفسر ذلك بالحسد والحقد والجهلº وذلك لأن في سلسلة المعقولات لديه حلقات مفقودة، لهذا فإنه لا يستطيع رؤية التداعيات المنطقية بين الأشياء.
التعميم المفرط داء وبيل يُبتلى به المتعصبون عادة، ونحن نقول دائماً: إن التعميم المفرط من أكثر أخطاء التفكير شيوعاً، وذلك بسبب عجز معظم الناس عن إصدار أحكام مبنية على رؤية تفصيلية منصفة، إن أي فضيلة تثبت لواحد من أفراد قبيلة المتعصّب، يعمّمها على باقي أبناء القبيلة، وإن أي رذيلة تثبت عن قبيلة منافسة يقوم بتعميمها على جميع أبناء كل تلك القبيلة، وفي هذا من الظلم ما لا يخفى. وهكذا فالمحاباة والتحامل صفتان أساسيتان لدى الإنسان المتعصّب، وهاتان الصفتان توجدان خللاً كبيراً في الشخصية، ولهذا فإن المتعصّب يكون في الغالب محروماً من التوازن العقلي والانفعالي الذي يتمتع به الأسوياء.
للحديث صلة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد