أخرج البخاري من حديث جابر بن عبد الله قال: \"كنا في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما بال دعوى جاهلية؟ قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال: \"دعوها فإنها منتنة\". فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال: فعلوها؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعه، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه\" [1]
ألفاظ الحديث:
- (كنا في غزاة): الغزاة هي غزوة المريسيع، وهي التي هدم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنم مناة الطاغية. وقيل هي غزوة بني المصطلق.
- (فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار): الكسع هو ضرب الدبر باليد أو الرجل، وقد وقع الضرب من غلام من المهاجرين على غلام من الأنصار، كما صرحت بذلك رواية الإمام مسلم. وهذا النوع من الضرب عند أهل اليمن شديد ومعيب.
- (للأنصار): بفتح اللام، وهي للاستغاثة، أي أغيثوني، وكذا قول الآخر (يا للمهاجرين).
- (دعوها فإنها منتنة): أي دعوة الجاهلية، ونتنها: ما فيها من قبح وخبث شديد.
- (فعلوها): هذه مقالة رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول، وهي استفهام بحذف الأداة، أي: أفعلوها؟ يعني الأثرة، أي: شركناهم فيما نحن فيه فأرادوا الاستبداد به علينا؟ [2].
ما اشتمل عليه الحديث من الفوائد والفقه:
يفيد هذا الحديث أن دعوى العصبية الجاهلية، رغم كونها ممجوجة مبغوضة عند أصحاب الفهم والطبع السليم، إلا أن الشيطان يضرب على وترها في أوقات الغفلة والفتنة، لتحيا مميتة بذلك روح الإخاء والصفاء بين الإخوة المتحابين، إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بذل الكثير ليغسل أوضار هذه العصبية عن جبين الأمة، وقد وفق في ذلك بعون من الله كما قال - تعالى -: ((هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين، وألف بين قلوبهم، لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم)) [الأنفال/62، 63]. ولكن شجاراً نشأ بين اثنين من الصحابة، يرجح أنهما كانا حدثين، كاد يعصف بروح الأخوة بين المؤمنين، ويقطع حبال المودة التي نسجت حول قلوبهم. فتنادى كل من المتضاربين بمن يظن أنهم خاصته وأصحاب نجدته، ناسياً أن المؤمنين قد وحد بينهم الدين، فنادى واحدهم (يا للأنصار) أغيثوني وانجدوني (!!) ممن؟ من المهاجرين؟ ونادى الآخر: (يا للمهاجرين) وماذا يبقى في الأرض من خير إذا تشاجر المهاجرون والأنصار؟!.
إنها الفتنة العصبية تطل برأسها دون استحياء من خير القرون، وهذا ما أزعج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأغضبه حتى قال: \"ما بال دعوى جاهلية؟ « لقد وصفها بالوصف اللائق بها: \"دعوى... جاهلية\"، وهل بعد التعصب لغير الحق من جهل؟ ثم زادها وصفاً لم يصفه لشيء من قبل فيما نعلم، وصفها بالنتن، وأمر بهجرها وتركها والتبرؤ منها... \"دعوها فإنها منتنة\".
إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أطفأ بهذه الكلمات ناراً أراد رأس النفاق أن يشعلها، أو يزيدها اشتعالاً، وكدأب المنافقين المجرمين، عمد ابن سلول إلى سكب الوقود على النار حتى تتأجج وقال: \"ما مثلنا ومثلهم - يعني المهاجرين مع الأنصار - إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك\"!! وكذب عدو الله فلا هو من الأنصار لينتصر لهم، ولا هو ند للمهاجرين فينتصر منهم. ولقد كشف الله مخبوءه بتلك الكلمات العصبية العنصرية الجاهلية، ونزل الوحي مشنعاً على مقالته الخبيثة: ((يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون)) [المنافقون/8]. إن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين حقاً، وقد تعلم رأس المنافقين ذلك من أقرب الناس إليه، فابنه عبد الله، لما بلغه ما كان من أمر أبيه، أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: \"بلغني أنك تريد قتل أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلاً فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فقال: \"بل ترفق به وتحسن صحبته\" فكان بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين ينكرون عليه. ولما سمع سيد الأنصار - أسيد بن حضير - رضي الله عنه - بمقالة ابن سلول قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: \"فأنت يا رسول الله الأعز وهو الأذل\" وهكذا كان الأنصار عند الظن بهم، أكبر من الحمية الجاهلية وأنظف وأنقى من التلوث باللوثة العنصرية العصبية.
إن دعوى الجاهلية التي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدعوها، هي مرض بشري قديم، تناقلته الأمم، وتوارثته الأجيال، وصارت تلك الدعوى عدوى تنتشر بين الأمم تبث في كياناتها أدواء العلو والتسلط والعجب والغرور، ولم تفلح العقول البشرية الكبيرة - أو التي يفترض أنها كبيرة - في أن تجد حلاً لهذه المعضلة، بل الواقع يشهد بأن كبار مفكري البشر، المعزولين عن نور الوحي، قد أعانوا على تأسيس مدنيات بنيت على العصبيات الجاهلية.
فهذا (أفلاطون) يؤصل للعنصرية الطبقية عند اليونان فيقول: \"الإله الذي جبلكم وضع في طينة بعضكم ليمكنهم من أن يكونوا حكاماً، ووضع في جبلة الوزراء فضة، وفي العبيد نحاساً وحديداً لكي يكونوا زراعاً وعمالاً\". ويقول (أرسطو): \"إن بعض الشعوب هم أرقاء بالطبيعة، وهم دون الآخرين، وقد خلقوا مؤهلين لأن يطيعوا الأوامر لا غير، ولذلك فمن العدل أن يستخدمهم الأعلون كآلات حيوانية \".
ولم تكن هذه الترهات الفلسفية المتهافتة إلا تعبيراً عن واقع كانت البشرية ولا تزال تعيشه في حياة البعد عن الإيمان، حيث كان التعالي العنصري يمثل إشباعاً لغرور المتكبرين الذين يريدون احتكار المجد والغلبة ضد أقوام لا يختلفون عنهم إلا في صفات غير مقدور عليها كاللون والدم والجنس والأرض. أما الإسلام فإنه يربأ بنا عن هذا الدنس، ويسخر من حضارات بنت عمارتها على أنقاض الشعوب المستذلة المستضعفة لحكم الجبارين الجاهليين المتعالين بدعاوى العصبية والعنصرية، أولئك الذين لم يكتفوا بتقسيم أمم العالم إلى بشر وحيوانات، حتى صنفوا نفس مجتمعاتهم إلى طبقات فوق طبقات. لقد كان اليونان مثلاً يقسمون المجتمع إلى أقسام طبقية على أسس عنصرية، فالطبقة الأولى: المواطنون، وهؤلاء لهم الحق في المشاركة السياسية والإدارية والشؤون العامة في المجتمع، والطبقة الثانية: طبقة الأجانب المقيمين في المدينة، وكانوا مجردين من كل حقوق الطبقة الأولى، والثالثة طبقة الأرقاء، وكانوا يعتبرون عنصراً اقتصادياً مستخدماً فحسب رغم أنهم كانوا يمثلون ثلث سكان أثينا. وكان اليونان يعتقدون أنهم شعب مقدس، قد خلق من عناصر تختلف عن العناصر التي خلقت منها الشعوب الأخرى التي كانوا يطلقون عليها اسم (البربر)[3]. وهذا التقسيم اليوناني مستمد من أفلاطون عندما قسم (المدينة الفاضلة) إلى أحرار وعبيد وأجانب، كما في كتابه (القوانين). أما أرسطو، فقد كانت عنصريته فجة أكثر من أفلاطون، حيث قال: إن الله قد خلق فصيلتين من الناس: فصيلة زودها بالعقل والإرادة وهي فصيلة اليونان، وفصيلة لم يزودها إلا بالقوى الجسدية وهم البرابرة من عدا اليونان أما الرومان، فلم يكونوا أحسن حالاً من اليونان، إذ ورثوا عنهم العنصرية بكل ما فيها من عفن، وبعد أن حلوا محل اليونان واستولوا على بلادهم عام 146 ق. م خلعوا على أنفسهم رداء القداسة، وصار يقال: المواطن الروماني، الشعب الروماني، الأرض الرومانية، حتى الغنم والبقر والحيوانات الرومانية.
وإذا كان بعض كبار الفلاسفة اليونان (أفلاطون - أرسطو) قد أسبغوا الشرعية على العنصرية في فلسفتهم، فإن (جوستنيان) وهو الملقب عندهم بـ (أبي القوانين) قد قنن الظلم العنصري في قانونه المسمى باسمه، والذي يعتبر قانوناً معترفاً به حتى في هذا العصر في معظم جوانبه، يقول جوستنيان: \"إن بعض الرعايا ممن ليسوا روماناً بالسلالة، ليس لهم حق الرومان، بل لأولئك طبقة السادة وللآخرين طبقة من تفرض عليهم السيادة، فهي رعية مغلوبة على أمرها تتحكم فيها الدولة الرومانية من غير معقب ولا محاسب\". ولقد ورثت الحضارة الغربية هذا التعالي، لا على مستوى المجتمعات فحسب، بل على مستوى الشعوب وهذا أمر مشاهد.
والعنصرية وجدت أيضاً في أقبح مظاهرها، لدى من ينسبون أنفسهم إلى نبي الله يعقوب (بني إسرائيل) من يهود ونصارى فقالوا (نحن أبناء الله وأحباؤه).
وفي بلاد الهند، قامت الحضارة المسماة بالحضارة البرهمية على أسس عنصرية، تقسم المجتمع صراحة إلى أربع طبقات هي: طبقة الكهنة ورجال الدين (البراهمة) وطبقة الجنود والقادة (الشترى) وطبقة الحرفيين (مريش) وطبقة العبيد (الشودر). وقد زاد الهندوس هذا الشطط العنصري عندما ألحقوا طبقة البراهمة بمنزلة الآلهة. وكذلك أرسى الفرس أسساً عنصرية ليقيموا عليها مدنيتهم، ولم يكن الأكاسرة إلا بشراً متألهين يرون أن عروقهم يجري فيها دم إلهي يوجب على الناس تقديسهم. وقسموا المجتمع الفارسي إلى ثلاث طبقات: الطبقة الأولى: (آثروان) يعني طبقة رجال الدين، والثانية: (راتتشتر) وهم الفرسان والقادة. والثالثة: (داستريو فشويانت) يعني العمال والزراع، ولكل طبقة معاملة تختلف عن الأخرى ولم تكن جاهلية العرب بأقل سوءاً من جاهليات العجم، وهم وإن كانوا لا يتفاضلون من حيث الرياسات والطبقات الحاكمة، إلا أنهم كانوا يتفاضلون بالأحساب والأنساب ويقدمونها على كل اعتبار. فشرف القبيلة تثور من أجله الحروب وتنتهك من أجله الحرمات وتهون في سبيله كل التضحيات. وشرف القبيلة هذا، يمكن أن يهان بأتفه الأسباب.
وفي العصور الحديثة حلت العنصريات القومية والوطنية محل العنصريات القبلية والطبقية البدائية في كل قارات الأرض، وقد أذكى نارها وهيجها نابليون بونابرت عندما استفز الألمان واستهدف إذلالهم، فثارت فيهم نعرة القومية وطالب مفكروهم بإنشاء دولة جرمانية كبرى تسيطر على أوربا كلها، ثم انتقلت العدوى إلى بقية بلاد أوربا، وتأثر بها عدو الإسلام في تركيا: (أتاتورك) فنادى بالقومية (الطورانية) الداعية إلى علو الأتراك على العرب فبادلهم الجاهليون العرب بأن دعوا إلى (القومية العربية).
أما الإسلام، فهو وحده المبرأ من هذه الأدناس، والنظيف من تلك الأرجاس. وقد نادى في الناس منذ جاء: ((يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)). ولهذا فعندما بدا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الجاهلية العنصرية تحاول أن تطل برأسها من جديد في مجتمع المسلمين هب محذراً منها، ومسفهاً إياها ومذكراً الناس أنها منتنة.
حقاً إنها منتنة... فليتطهر المسلمون منها....
----------------------------------------
[1] - أخرجه البخاري في كتاب التفسير ح (4905) انظر الفتح 8/517، ومسلم في كتاب البر والصلة (45) ح (63) 4/1999.
[2] - راجع الفتح 8/517، 518.
[3] - يراجع (بطور الفكر السياسي) لجورج سابان.ترجمة حسن العروسي ص 2- 4.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد