يبدو أنه ما من مجتمع بشري إلا وفيه دعاة إلى نوع من الفضيلة وحماة للرذيلة، وأن حال المجتمع ومصيره رهين بغلبة أحد الفريقين. وأعني بالفضيلة أشياء مثل: الصدق والعدل والأمانة والعفة وعدم الانغماس في الشهوات، والتحذير من كل ما يؤدي إلى ذلك من وسائل. هذه الأمور من الفضائل التي ركزها الله في طبيعة البشر، والتي تأتي أنوار الرسالات لتؤكدها وتشرع للناس ما يتناسب معها من عقائد وعبادات ومعاملات.
أريد أن أعطي القارئ الفاضل أمثلة من هذا لبعض ما اطلعت عليه في الغرب في الأسابيع الأخيرة من غير بحث ولا تنقيب.
قرأت قبل بضعة أسابيع مقالاً بجريدة نيويورك تايمز يسخر فيه صاحبه من كثير من الفضائل التي يتميز بها المجتمع السعودي، ويقول: إنها تعوق فتح باب السياحة للأجانب، ويرى أن الاستفادة من هذه السياحة تتطلب التخلص من تلك الفضائل، وأن تستبدل بها الرذائل التي اعتاد عليها في بلده، والتي أصبح كثير من أمثاله حتى في بلادنا يرونها ضربة لازب لكل مجتمع يريد أن يرتقي إلى مصاف الدول المتحضرة بزعمهم. يسخر من الحجاب، ومن قتل القاتل، ومن منع اختلاط الرجال بالنساء، ومن توقف العمل لأداء الصلاة. ويقول: إن فكرة تجوال امرأة شابة غير متزوجة وهي لا ترتدي إلا ... هو مما يراه السعوديون أمراً مرعباً.
لم أعرف تلك اللبسة التي ذكرها حتى سألت عنها، فإذا بها لبسة لا تغطي من جسم المرأة إلا شيئا من صدرها، وشيئاً قليلاً مما فوق ركبتيها بكثير إلى ما تحت خاصرتها! هذا الذي يراه هذا المطموس الفطرة أمراً طبيعياً، بينما يرى الحجاب أمراً منكراً.
ثم قرأت بعد أسابيع من ذلك في جريدة الواشطن بوست مقالاً يقول: إن تلك اللبسة صارت اليوم معروضة في كبرى المحلات التجارية ضمن ألبسة طالبات المدارس حتى اللائي لم يبلغن سن العاشرة! لكنه يذكر أن كثيراً من الآباء احتجوا على الدعاية لها، وأن بعض الأمهات رفضن أن يشترينها لبناتهن رغم إلحاحهن الشديد. وأن بعض مدراء المدارس يفكر الآن في فرض زي معين للطالبات. فمن الذي سينجح في هذه المعركة ـ إن كانت معركة؟ أغلب ظني أنهم حماة الرذيلة.
وكنت قد ذهبت قبل أسبوعين إلى لندن للمشاركة في مؤتمر عن العولمة نظمه المنتدى الإسلامي. وأثناء وجودي بالفندق كنت أقرأ بعض الصحف اليومية وبعض المجلات، كما أشاهد التلفاز. فوجدت في تلك الأخبار العجب العجاب. سمعتهم يتحدثون عن برنامج عرضته إحدى القنوات التجارية أثار سخط الآباء والأمهات، بل وسخط بعض الوزراء والوزيرات. أتدرون عم كان البرنامج؟ كان عن المبتلين بالميل الجنسي إلى الأطفال. ويبدو أنه عرضت فيه صور فاضحة وأنه سخر من الاعتراض على هذا الانحراف. لكن حماة الرذيلة وعلى رأسهم المسؤول عن القناة جاء يدافع عنه ويزعم أنه لا يرى فيه منافاة للأخلاق!
ثم قرأت في إحدى الجرائد عن فيلم سيعرض بعد أسابييع يشاهد فيه الشعب الانجليزي لأول مرة الفاحشة تمارس على شاشات السينما. بل إن الدعاية له التي نشرتها الجريدة والتي رأيتها بعد ذلك معلقة في الأماكن العامة تتضمن شيئاً من ذلك المنكر. قالت إحدى الكاتبات في تلك الجريدة: هل نحن مقبلون على ممارسة الجنس في قارعة الطريق؟ وتذكرت ـ كما أن القارئ لا بد أن يكون قد تذكر ـ الحديث الذي رواه أبو يعلى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يتكلم عن آخر الزمان:
\" والذي نفسي بيده حتى يقوم الرجل إلى المرأة فيفترشها في الطريق، فيكون خيارهم يومئذ من يقول: لو واريتها وراء هذا الحائط \".
لكن منتجى الفيلم، وكاتب القصة التي بني عليها ظهروا على شاشات التلفاز يدافعون عن هذا المنكر، ولا يرون فيه شيئاً منافياً للأخلاق.
ثم قرأت بإحدى المجلات مقالاً طويلاً بعنوان: (عصر الانحطاط) ذكرني بكتاب جديد في تاريخ الثقافة الغربية عنوانه: (من الفجر إلى الانحطاط).عرفت من صاحبة المقال أن ذينك البرنامجين المذكورين آنفاً كانا ضمن سلسلة من المنكرات التي توالت في مدى بضعة أسابيع بتلك البلاد، منها: اعتراف أحد الكبار بأنه أقسم أمام القضاء كاذباً، واعتراف بعض المتزوجين لوسائل الإعلام بأنهم زنوا، ومنها كثرة العلاقات الجنسية بين أقرب المحارم.
لكن هذا الكلام لم يعجب إحدى حاميات الرذيلة فكتبت في إحدى جرائد التابلويد تسخر من الكاتبة، ومن المجلة التي نشرت المقال. وكان مما قالته أن زنا المتزوجين ليس بالخطيئة الجديدة فلا يعد معياراً لانحطاط الأمم. أقول: نعم إنه ليس بالخطيئة الجديدة، بل قد يحدث في أكثر المجتمعات عفة. لكن فرق بين أن يكون حوادث شاذة متناثرة، وأن تعم به البلوى فيكون سمة للمجتمع. وأقول للكاتبة: ما رأيها فيما نشرته الجرائد عن مسرحية ظهر فيها أحد الممثلين عريانا أمام الجمهور، ثم أعطاهم قفاه و... تخيلوا ماذا؟ تغوط! أترى هذا أيضاً لا يدل على الانحطاط حتى في الأذواق؟
إن الإجرام دركات. ففرق بين أن يرتكب الإنسان جرماً محصوراً في نفسه، وبين أن يتباهى به ويعلنه على الناس، ثم بين هذا وبين من يدعو إليه ويسعى للدفاع عنه وحماية مرتكبيه. هؤلاء هم شرار الخلق وهم سبب انحطاط الأمم وهلاكها. وقد أعطانا ربنا صورة واضحة عنهم لنسعى جاهدين لقمعهم ودفع باطلهم. تعلمنا من كتاب ربنا أن بعض الناس لا يفعل الغواية فحسب، بل يحبها ويكره الهداية. \"وأما ثمود فهيديناهم فاستحبوا العمى على الهدى\" وأن بعض الناس لا يرتكب الفاحشة فحسب بل يحب لها أن تنتشر ولا سيما بين الصالحين. \" الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا\" وأن بعض الناس يحب الكفر والفسوق والعصيان إلى درجة تجعله مستعداً لأن ييذل كل ما في وسعه للدفاع عنها بالحجة والمال، بل وبالنفس وكل رخيص وغال.
}كُلَّمَا أَوقَدُوا نَارًا لِلحَربِ أَطفَأَهَا اللَّهُ وَيَسعَونَ فِي الأَرضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبٌّ المُفسِدِينَ { (المائدة: 64)
}وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَولِيَائِهِم لِيُجَادِلُوكُم وَإِن أَطَعتُمُوهُم إِنَّكُم لَمُشرِكُونَ { (الأنعام 121)
}إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَموَالَهُم لِيَصُدٌّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيهِم حَسرَةً ثُمَّ يُغلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحشَرُونَ{ (الأنفال:36)
}الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَولِيَاءَ الشَّيطَانِ إِنَّ كَيدَ الشَّيطَانِ كَانَ ضَعِيفًا{ (النساء: 76)
وأنت ترى في هذه الآيات الكريمة وغيرها كيف أن الله ـ تعالى ـ لا يكتفي بإخبارنا عن باطلهم، بل يحثنا على مدافعته، وتغييره. فعلى المؤمنين بالحق أن لا يقفوا عند حدود الاستمساك السلبي به، بل أن يكونوا متعاونين في الدعوة إليه، والدفاع عنه، والسعي لقمع أعدائه بالحجة والبرهان، وبذل النفس والنفيس. } إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير{ إن حماة الرذيلة لا يقفون عند حد الدفاع عنها، بل يسعون لمحو معالم كل فضيلة مضادة لها. لكن الذي يمنعهم من ذلك هم جنود الحق المدافعون عنه الباذلون الجهد لإعلاء كلمة الله.
} ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين {(البقرة:251).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد