في كل يوم يُقبل تشتد حاجة الأمة إلى العالم الرباني الذي وصفه الله بقوله: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ووصفه بقوله: {ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تُعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}.
ذلك أن العلماء ورثة الأنبياء يهدونهم إلى الحق ويرشدونهم إليه، فهم منارات الهدى ومصابيح الدجىº فلولا العلماء لكان الناس كالأنعام لا يعرفون معروفاً ولا يُنكرون منكراً ففضل العلماء على الأمة عظيم: {وجعلنا منه أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}، والإمامة في الدين إنما تُنال بالصبر واليقين، وعليه فهَل كل من لبس العمامة والجبة عالم؟!! وهل كل من أشير إليه بالبنان عالم؟!!
كلا...فالعالم الذي يخشى الله ويتقيه حق تقاته هو الذي يعمل بطاعته ويحذر معصيته يطلب العلم للهº لا ليماري به العلماء، أو ليجاري به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه، أو ليوسع له في المجالس، وتُغدق عليه الجوائز والصلات، ويُلقى عليه هالة من التقديس فيمدح بما ليس فيه، ويتشبع بما لم يعط فيغدو كلابس ثوبي زور!!
وعالم السوء من أحسن زخرفة الألفاظ، وأجاد سبك العبارات، وبرع في شقشقة الكلام، وهو من الداخل خواء من كل فضيلة، قد ملأ النفاق قلبه وأفاض على جوارحه، يحسبه الظمآن ماء وما هو إلا سراب بقيعة، يقول ما لا يفعل، ويفعل ما يؤمر، ويقفو ما ليس له به علم، ويعرض عما ندب إليه، ويتكلف ما لا يعنيه: يشتغل بعيوب الآخرين، ونسي عيوب نفسه، قصدهُ من العلم التنعم بالدنيا والتوصل إلى المنزلة عند أهلها، أولئك لا يجدون عرف الجنة حتى يعود اللبن في الضرع، وحتى يلج الجمل في سم الخياط إلا أن يشاء الله.
والعالم الرباني عز وجوده في هذا الزمان إلا من رحم الله وقليل ما هم، مصداقاً لقول رسول الله: \" إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً من صدور العلماء، وإنما بموت العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا \"(1).
ومن صفات العلماء الربانيين:
بُعدهم عن السلاطين محترزين عن مخالطتهمº فيفرون منهم فرارهم من المجذوم لئلا يفتنوا بهم ويتعلقوا بدنياهم، فيصبحوا مطية لهم يرتحلونهم متى شاءوا فيزينوا لهم الباطل حسب أهوائهم، فبئس ما صنعوا وبئس المنقلب منقلبهم.
وفي الحديث الصحيح: \" ومن دخل على السلطان افتتن \"، قال حذيفة - رضي الله عنه -: إياكم ومواقف الفتن.
قيل: وما هي؟
قال: أبواب السلاطين، يدخل أحدكم على السلطان فيصدقه بالكذب، ويقول ما ليس فيه.
وقال سعيد بن المسيب: إذا رأيتم العالم يغشى الأمراء فاحذروا منه فإنه لص.
وقال بعض السلف: إنك لا تصيب من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من دينك أفضل منه.
ومن صفات العالم الرباني: عدم التسرع في الفتوى فلا يُفتي إلا بما يتيقن صحته.
وقد كان السلف يتدافعون الفتوى حتى ترجع إلى الأول.
وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت في هذا المسجد مئة وعشرين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أحد يسأل عن حديث أو فتوى إلا ود أن أخاه كفاه ذلك، ثم قد آل الأمر إلى إقدام أقوام يدعون العلم اليوم، يُقدمون على الجواب في مسائل لو عرضت لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لجمع أهل بدر واستشارهم.
فكيف بأدعياء العلم في العصر الحديث!!
ومن صفاته: اعتقاد عقيدة السلف الصالح ومنهجهم، وتعظيم السنة ومحاربة البدعة وأهلها والتشريد بهم وبغضهم ومعاداتهم، فهو يوالي أهل السنة، ويعادي أهل الأهواء والبدعة، ويجاهد في سبيل الله باللسان والسنان ولا يخاف في الله لومة لائم.
والعالم الرباني: يتبع ولا يبتدع، ولا يضرب السنة بالكتاب، ولا يُقسم الدين إلى قشر ولباب.
والعالم الرباني: ينصاع للحق ويشكر من أسدى إليه نُصحاً ولو كان أصغر منه سناً أو أقل منه فقهاً، ولا يضيق صدره به.
والعالم الرباني: يخاف سوء الخاتمة فلا يجتزئ على الباطل، أو يتطاول على المسلمين، أو يسخر منهم، أو يغمزهم ويلمزهم، أو يُكيل لهم التهم والفرى جزافاً.
والعالم الرباني: لا يتعامل مع مخالفيه من المسلمين كما يتعامل مع الأفاعي والعقارب، فيرخي العنان(1) للسانه شتماً وقذفاً وسخرية وتفنناً في عبارات السب واللعن، بل يُنظف لسانه ويُطهر جنانه، ويسأل ربه المغفرة ويخاف سوء الخاتمة.
فما أحوجنا إلى علماء ربانيين صادقين(2)، ليأخذوا بيد هذه الأمة إلى سبل السلام، فإن الأمة أحوج ما تكون إلى الأسوة والقدوة المتمثلة بأخلاق علماء الجيل الأول الذين تمثلوا أخلاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي كان خلقه القرآن(3) فتزكو الأمة بهم، ويكون لها التمكين في الأرض، وما ذلك على الله بعزيز.
ـــــــــــــــ
(1) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد