الجبال الجليدية


  

بسم الله الرحمن الرحيم

أغلب الشبهات والاتهامات تصدر عن أناس ليس بينك وبينهم صلة أو علاقة طيبة، إذ إن إغفال العلاقات الإنسانية سبب رئيس في تجرؤ الناس بعضهم على بعض.

إن الحواجز النفسية التي يوجدها بعض الدعاة في نفوسهم تجاه الآخرين (سواء كانوا إسلاميين مخالفين أم غير إسلاميين) هي المشجع للآخرين لأن يتهجموا عليهم بوابل من الاتهامات التي لا تنتهي، وعلاج ذلك هو الاتصال بهم.

نعم إنه لا ينبغي للداعية الذي يعتقد أن الحق معه أن ينعزل عن الناس، ويحيط نفسه مع نفر من أصحابه بسياج وهمي من القناعات المزيفة التي لا توصل حقاً ولا تمنع باطلاً.

 

إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - خالط الناس أجمعين، وأمر بذلك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: \" المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم \" (رواه الترمذي).

 

ولما سأل ابن عباس - رضي الله عنهما - الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل ولكنه لا يحضر الجمعة ولا الجماعات، فقال: \" خبروه أنه من أهل النار \" رواه الترمذي.

 

ويقول الشيخ محمد الغزالي: \" إن الإسلام دين تجمع وإلفه، ونزعة التعرف إلى الناس والاختلاط بهم أصيلة في تعاليمه، وهو لم يقم على الاستيحاش، ولا دعا أبناءه إلى العزلة العامة والفرار من تكاليف الحياة، ولا رسم رسالة المسلم في الأرض على أنها انقطاع في دير أو عبادة في صومعة، كلا فإن الدرجات العالية لم يعدها الله - عز وجل - لأمثال أولئك المنكمشين الضعاف \"(1).

 

نعم، إن على المسلم، لا سيما الداعية، أن يقيم جسوراً مع جميع المسلمين بجميع مذاهبهم وجماعاتهم ودعواتهم، إذ أنهم إخوانه في الدين، وصدق الله - تعالى -إذ يقول: \" إنما المؤمنون إخوة \" (الحجرات: الآية 10).

 

بل ينبغي أن يتعدى الأمر ذلك بحيث تقيم الدعوات الإسلامية أيضاً جسوراً وتفتح حوارات مع الملأ والمتنفذين، وكذلك مع القوميين والعلمانيين وغيرهم.

 

إن واجب الدعاة والدعوات الإسلامية دعوة الناس أجمعين وإيصال الخير لهم، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا بالاتصال بهم وإزالة الشبهات والتهم العالقة في أذهانهم، أو التخفيف من حدتهم وشرها.

 

ولا يعني ذلك أن هذه الدعوات الهدّامة ليس فيها خبث ولا دناءة ولا مكر ولا خديعة، كلا، إن كثيراً منها فيها ذلك، وربما أكثر، ولكن اقتضت الحكمة الإلهية أن الإنسان يستطيع أن يشتري الآخرين بحسن تعامله معهم. وصدق الشاعر إذ يقول:

 

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ***  فطالما استعبد الإنسان إحسان

 

إن الحياء والخجل من طبيعة البشر، ويصعب على كثير من الناس أن يسيء إليك صراحة إذا تقربت إليه وأحسنت التعامل معه، أو على الأقل فإن حدة محاربته لك واتهامه إياك وتشنيعه بك سوف تقل إلى درجة كبيرة، وهذا مجرَّب ومعروف.

 

أما بالنسبة للمسلمين والمحايدين وعامة الناس، فأمرهم أيسر من أصحاب الأفكار والمبادئ المنحرفة. لقد صرح كثير من المتنفذين أنهم كانوا يحملون كثيراً من الشبهات تجاه بعض المؤسسات الإسلامية، بل إن هناك من يسعى لإثارة هذه الشبهات وإقناعهم بها، فلما اتصلت هذه المؤسسات بأولئك المتنفذين وجرى بينهم احتكاك ومباسطة وحوار وتبادل زيارات انقلب الأمر، وقالوا: والله لقد كنا مخطئين في اتهامنا لكم، فأنتم خير من عرفنا.

 

وإزالة الحواجز النفسية والجبال الجليدية مع جميع فئات المجتمع يحتاج إلى قناعة بأهمية هذا الأمر، وإلى التربية الاجتماعية التي لا انعزال فيها ولا احتقار للمجتمع، وإلى صبر وتحمل للشدائد والإيذاء، وإلى علم وحجة وثقافة عالية، وإلى أن يكون المتصل (الغالب) مكافئاً (في العلم أو المستوى الاجتماعي أو الفكري أو في السن أو في غيره) للمتصل به.

 

إننا في عصر الاتصال والعلاقات العامة، ومن لا يدرك هذه الحقيقة يرجع إلى الوراء عقوداً وربما قروناً. لذا على الدعوة الإسلامية أن تواكب العصر الذي تعيش فيه لتبلغ دين الله بيسر وعقل وفطنة.

 

إن كثيراً من الشبهات يمكن القضاء عليها بهذه العلاقات، ومن لا يرى ذلك فليجرب، ولو مرة واحدة، ثم يحكم بعد ذلك.

 

ولكن نود أن ننوه هنا إلى مسألة مهمة وهي أنه لا ينبغي للمسلم أن يخلط بين الولاء وبين حسن المعاملة، فالفرق بينهما دقيق وكبير، ولعل من أوضح الآيات التي تبين الفرق بين الولاء وبين البر وحسن التعامل هي آية الممتحنة التي يقول الله - تعالى - فيها:

\" لا ينهاكم الله عن الذين لم يُقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرٌّوهم وتُقسطوا إليهم إن الله يُحبٌّ المُقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولَّوهم ومَن يتولَّهم فأولئك هم الظالمون \". (الممتحنة 8-9)

إن الولاء هو المحبة والنصرة، ولا تكون إلا للمسلمين، فلا يجوز للمسلم أن يحب وينصر غير المسلمين فيكون لهم خليلاً ومحباً وناصراً.

بل ينبغي أن يتبرأ من كفرهم وشركهم وانحرافهم، ولكن لا يعني ذلك أن يسيء معاملتهم أو يظلمهم أو يأكل حقوقهم أو يفحش لهم القول، فهذا لا يجوز بنص كتاب الله في الآية سالفة الذكر.

 

إن التعامل هو السلوك الظاهري، وقد أمرنا الله أن يكون هذا السلوك حسناً للمسلم ولغيرهم المسلم، ممن لم يقاتل المسلمين، لا سيما إذا قصدت دعوتهم، أو الحد من شرهم، أو تحييدهم، أو ربما تجييرهم لخدمة دين الله، فقد ينصر الله الدين بالرجل الفاجر.

 

وخلاصة القول إن الولاء هو سلوك الباطن والمحبة القلبية وهي للمؤمنين فقط، أما حسن التعامل فهو سلوك الجوارح والعلاقة الظاهرية وهي للمسلم ولغيره.

 

ــــــــــــــــــــ

(1) محمد الغزالي، خلق المسلم، دار القلم، دمشق، 1987، ص 197.

المراجع د. علي الحمادي، خفافيش أعماها النهار، ص 69-74

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply