الإخلاص والعمل الصالح


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن لكم يوماً تُرجعون فيه إليه، يفصل فيه بينكم والله بما تعلمون بصير، لقد انقضى عام وأقبل آخر، والأمة الإسلامية بين آمالها وآلامها، أما الآمال فالكل يأمل، ولكن شتان بين آمال وآمال، فأصحاب القلوب الحية الموصولة بالله يسألون الله - تعالى- أن يرزق هذه الأمة الإخلاص والتوفيق، والهداية لاتباع سنة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -.

وأصحاب القلوب التي أمرضها عكوفهم على شهواتهم، وحظوظهم العاجلةº يسألون طول العمر، وزيادة المال كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين عن أبي هريرة وأنس - رضي الله تعالى عنهما -: (يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنتان: حب الدنيا، وطول الأمل).

هذه هي الآمال، وأما الآلام فهي كثيرة متعدّدة، نشأت لما غاب الإخلاص، وتوبع غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذان أكبر مرضين وأخطر أمرين على الإطلاق، نشأ عنهما كل ألم أوجع هذه الأمة، وأثر فيها أعظم التأثير، لأجل ذلك أردت أن أذكر نفسي وإياكم بركني العمل المقبول الذي لا يقبل الله غيره، وهو العمل الذي يكون خالصاً، ماذا نقول في أمر الإخلاص؟

إن الإخلاص ركن عظيم، لو تخلف أصبح الإنسان بدونه مشركاً، والشرك درجات إما شركٌ جلي يظهر العبد معه غير ما يُبطن، ويعتقد خلاف ما يُبطن، فيكون - والعياذ بالله - ممن قال الله فيهم في سورة النساء: (( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً )).

ومعنى الشرك الخفي الذي هو الرياء أن يعمل العامل ولا يريد إلا وجه الناس ومدحهم وهرباً من ذمهم.

أيها الأخوة الكرام: قال الله - تعالى- في العمل الخالص والصواب في آخر سورة الكهف: (( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً )) عملاً صالحاً: أي صواباً يتابع فيه النبي، ولا يشرك بعبادة ربه أحداً: أي عليه أن يخلص لله - تبارك وتعالى - ولا يبتغي إلا وجهه.

 

والناس في الإخلاص والمتابعة أربعة أصناف:

فالصنف الأول: منهم هم أهل الإخلاص والمتابعة: لم يريدوا بعملهم إلا وجه الله - تبارك وتعالى - لم يريدوا ثناء الناس، ولا طلب المنزلة والمحمدة في قلوبهم، ولا الهرب من ذمهم، إنما كل أعمالهم لله - تبارك وتعالى - أعمالهم وأقوالهم، وحبهم وبغضهم، وعطاؤهم ومنعهم لله رب العالمين، فعملهم ظاهراً وباطناً لوجه الله وحده، لا يريدون من الناس جزاءً ولا شكوراً.

والصنف الثاني: لا إخلاص لهم ولا متابعة، وهم أمقت الخلق إلى الله - تبارك وتعالى -، وهم شرهم عنده إذ لم يريدوا بعملهم وجه الله، ولم يتابعوا رسول الله، فتزينوا للناس بما لم يشرعه الله - تبارك وتعالى -، فيا ويلهم يوم يقوم الناس لرب العالمين.

والصنف الثالث: هم الذين أخلصوا ولم يتابعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك مشهود ملحوظ ملموس في جُهّال العباد الذين أخلصوا الله - تبارك وتعالى - ولكن أفسد الشيطان عليهم فجعلهم يعملون بالنية الحسنة أعمالاً غير مشروعة، فيصومون يوم فطر الناس، ويعتقدون أن الخلوة والتخلف في بيوت معتزلون فيها أفضل من الجمع والجماعات، إلى غير ذلك مما يعتقده المنتسبون للطرق.

والصنف الأخير: هم أهل المتابعة الظاهرة الذين لا يصدق ظاهرهم باطنهم، فأتوا بأعمال تابعوا فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكن لم يكن من ورائها إخلاص، فحبطت وزالت وراحت كأنها لم تكن.

هذه هي الأصناف الأربعة في أمر الإخلاص والمتابعة ويقول الله - تبارك وتعالى - مُرغباً في الإخلاص، ومحذراً من الرياء: يقول في الإخلاص في سورة البينة: (( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة )).

واعلم أيها الأخ المسلم أنه لابد لكل عمل من نية كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمر - رضي الله عنه - الصحيح الذي أخرجه الجماعة: (إنما الأعمال بالنيات)، ولا بد للنية من الإخلاص لله - تعالى- كما قال لنبيه في سورة الزمر: ((إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين ألا لله الدين الخالص )).

وقال النبي فيما أمره به ربه في نفس السورة: ((قل لله أعبد مخلصاً له ديني )) فقال للناس: أنا أعبد الله مخلصاً له الدين فاعبدوا ما شئتم من دونه.

وقال في سورة النساء: ((ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً واتخذ الله إبراهيم خليلاً ))، من أحسن من هذا الذي أخلص في الباطن وتابع في الظاهر، تابع ملة إبراهيم حنيفاً، حنيفاً أي مائلاً عن الشرك مبتغياً وجه الله - تعالى-، ولهذا قال: (( واتخذ الله إبراهيم خليلاً )) لأنه ما أمره الله - تبارك وتعالى - بشيء إلا امتثله، قال الله - تعالى - في سورة الزمر: (( لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ))، وحذر النبي من الرياء تحذيراً شديداً فقال فيما أخرجه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن أول الناس يُقضى عليه يوم القيامة رجلٌ استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، بل قاتلت، ليقال: جرئ وقد قيل، ثم أمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار.

والرجل الثاني: رجل تعلّم العلم وعلّمه، وقرأ القرآن، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلّمته، وقرأت فيك القرآن قال: كذبت بل تعلمت ليقال: عالم، وقرأت ليقال: قارئ، وقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.

ورجل ثالث وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال، فأتى به، فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تُحب أن ينفق فيه إلا أنفقت فيه لك، قال: كذبت، بل فعلت ليقال: جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار).

هذا في حق الذين عملوا أعمالاً تابعوا فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكنهم أرادوا بها وجه الناس، وثناءهم، ومدحهم، هذا جزاءهم يوم القيامة، روى مُسلم كذلك عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (يقول الله - تعالى-: أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، وروى أبو داود بسند صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من تعلم علماً مما يبتغي به وجه الله - عز وجل - لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) أي: ريحها يوم القيامة.

أيها الأخوة الكرام: وإنما يفسد على الناس نياتهم وإخلاصهم وأعمالهم وأقوالهم الشيطان، قال الله عنه في سورة فاطر: (( إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً ))، وقال في سورة البقرة: ((الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ))، وقال في سورة يوسف: ((إن الشيطان للإنسان عدوٌ مبين))، وقال في سورة النور: ((ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ))، هكذا يأتي الشيطان إلى من سلمت نيته فيحاول أن يفسد عليه عمله، فإن سلم عمله حاول أن يفسد عليه قوله مع الناس ليوقع بينه وبينهم العداوة والبغضاء، فإياكم وإياه، إنه حريص على عداوتكم فاتخذوه عدواً كما أمركم ربكم - تبارك وتعالى -.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم الأنبياء، وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك وعلى آله وصحبه.

أما بعد:

وأما فضل الإخلاص:

فإنه لا يفوتني أن أنبّه عليه فإنه عظيم، فيتوسل به العامل إلى الله - تبارك وتعالى - لتفريج الهموم، وتنفيس الكربات، وتيسير المخرج من الضيق، وفي ذلك حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة النفر الثلاثة الذين أووا إلى الغار من شدة المطر، فانطبقت عليهم صخرة فسدت الغار عليهم، فتوجهوا إلى الله - تبارك وتعالى - بخالص عملهم، قالوا: إنه لن ينجيكم مما أنتم فيه إلا أن يدعو كل منكم ربه بأخلص عمله: فدعا الأول وتوسل إلى ربه بإخلاصه في بر والديه، ودعا الثاني وتوسل إلى ربه بإخلاصه لربه لما تعفف عن الزنا بابنة عمه وكانت أحب الناس إليه، ولما تمكن منها وقالت له: يا عبد الله اتق الله، فقام عنها وأعطاها الدراهم من غير مقابل، وتوسل الثالث بوفائه بحق أجيره لما عمل العمل وذهب ولم يأخذ أجره ثم عاد فذّكره بالأجر فقال: انطلق فخذ هذه البقر والإبل والرقيق فإن ذلك كله لك، فقال: يا عبد الله اتق الله ولا تهزأ بي، وذلك أن الرجل كان قد ثمّر له ماله واستثمره له، لم يوفه حقه فحسب بل ثمّره له، أين ذلك مما فيه اليوم أصحاب الأموال وأصحاب الأعمال، لا يوفون الناس أجورهم أياماً بل شهوراً، والرجل قد وفّى أجيره حقه، ليس ذلك فحسب بل ثمّره له واستثمره له، حتى صار إبلاً وبقراً ورقيقاً، توسل إلى الله بخالص عمله، فلما توسل الثلاثة انفرجت الصخرة عنهم - بإذن الله تبارك وتعالى -.

ألا يوجد اليوم بين المسلمين من لهم أعمال خالصة يتوجهون بها إلى الله لتفريج الهموم، وتنفيس الكربات، وتيسير المخرج من الضيق، عزّ الإخلاص، وعزّ وغلا سعره، وعقمت أرحام النساء أن تلد المخلصين في هذه الأيام.

وأما قصة يوسف ففيها العبرة العظيمة إذ توفرت الدواعي والإغراءات على الإيقاع بهذا النبي الكريم في فاحشة الزنا، فاعتصم بالله - تبارك وتعالى -، ولم تغب عنه رقابته ورؤيته فتعفف، قال الله: (( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين )) هذا فضل الإخلاص، أما لكم يا معشر الفتيان في قصته معتبر، أما لكن يا معشر الفتيات في قصته معتبر، هذا فضل الإخلاص.

والحوادث والوقائع كثيرة للاستدلال بها على هذا الفضل العظيم، فقد يعمل العبد عملاً يظن أن فيه رياءً لكنه بخلاف ذلك، ووضّح ذلك حديث أبي ذر عن مسلم - رحمه الله -: قال أبو ذر - صلى الله عليه وسلم - قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرأيت الرجل الذي يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه، قال: (تلك عاجل بُشرى المؤمن)، عمل عملاً لم يُرد به إلا الله ولكن الناس حمدوه على ذلك العمل أيكون بذلك مرائياً؟ قال: تلك عاجل بُشرى المؤمن، لا بل هذه البشرى التي تنتظره في الآخرة عجلها الله - تعالى - له في الدنيا ليعرف أنه بذلك على خير، شريطة أن يكون - أولاً وأخراً - غابت عنه رؤيا الناس لأعماله، وأختم هذا الكلام بأقوال بعض السلف الكرام عن الإخلاص:

قال إبراهيم النخعي - رحمه الله -: إذا كنت في صلاتك وجاءك الشيطان فقال: إنك مراء فزدها طولاً.

نعم، إذا جاءك الشيطان ليقول لك: أنت مراء بهذه الصلاة، أخلف ظنه وكِده، وقابل كيده بما هو أعظم من هذا الكيد الضعيف الحقير، زد الصلاة طولاً ولا تلتفت إليه، لأن ترك العمل من أجل الناس رياء، كما أن العمل لهم ولأجلهم شرك.

وقال يعقوب المكفوف: المخلص من كتم حسناته كما يكتم سيئاته، نعم!! فكما تحرص أيها المؤمن على ألا يطالع أحد سيئاتك وأعمالك غير الصالحة إذا خلوتº فاكتم الحسنات والأعمال الصالحة واجعلها بينك وبين ربك.

وقال أيوب السختياني ابن أبي تميمة - رحمه الله - الذي قال عنه الإمام مالك - رحمه الله -: رأيته لما حج عند زمزم لا يحدّث عن النبي إلا بكى بكاءً شديداً حتى إني لأرحمه - أيوب يقول: تخليص النيات على العمال أشد عليهم من جميع الأعمال، نعم كما قال بعضهم: ما جاهدت نفسي ما جاهدتها على الإخلاص، الإخلاص يحتاج إلى مجاهدة ومعالجة بسبب تسرب الشيطان وتسلله إلى النفوس، ومحاولته إفساد النوايا التي قُصد به وجه الله - تبارك وتعالى - وحده.

وقال يحيى بن معاذ: الإخلاص يُميز العمل من العيوب كتميز اللبن من الفرث والدم، نعم قال الله في سورة النحل: ((وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها من بين فرث ودم لبناً خالصاً خالصاً )): خلصاه من بين الدم والفرث لبناً خالصاً سائغاً للشاربين، والإخلاص يميز العمل من العيوب كتمييز اللبن من الفرث والدم، وقال السوسي: مراد الله من عمل الخلق الإخلاص فقط.

وقال الجنيد: إن لله عباداً عقلوا، فلما عقلوا علموا، فلما علموا أخلصوا، فاستدعاهم الإخلاص إلى أبواب البر أجمع، قادهم الإخلاص إلى أبواب البر أجمع، إذ المخلص لا رياء له، والصادق لا إعجاب له.

وقال أبو عثمان: الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق، فانسَ أن الناس ينظرون إليك، وانسَ ذلك تماماً، وداوم النظر وراقب واستشعر من هو قريب منك مطلع عليك، ربك - تبارك وتعالى - لا تغيب أبداً عن نظره - تبارك سمعه وبصره -.

وقال إبراهيم بن أدهم: ما صدق الله من أحب الشهرة، نعم ويصدقه من أعمال السلف ما رواه ابن الجوزي عن رجل أنه كان مع عبد الله بن المبارك - رحمه الله - يقول: فأتينا على سقاية والناس يشربون، فدنا منها ابن المبارك ليشرب فزاحمه الناس ودفعوه، لأنهم لم يعرفوه، فلما خرج قال لي: هكذا فليكن العيش، يعني حيث لم نعرف ولم نوقر.

وأختم هذه الأقوال بمقولة مطرف بن عبد الله - رحمه الله - قال: لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً خير وأحب إليّ من أن أبيت قائماً وأصبح معجباً، يعني: لأن أبيت نائماً لم أصلِ صلاة الليل (القيام) وأصبح نادماً على فوات القيام، أحب إلي من أن أبيت قائماً ثم أصبح مختالاً معجباً لأني قمت الليل.

هكذا أيها الأخوة الكرام قد انقضى عام من عمركم وأقبل آخر، فاستغفروا الله مما مضى، واستقبلوا الذي نزل بساحتكم بعزم أكيد على الاستقامة، والعمل الخالص الصواب لله - تبارك وتعالى - وحده.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply