إن للمسلمين الصادقين صفات وسجايا تعلموها في مدرسة القرآن الكريم وسنة الرسول العظيم {حتى عرفوا بها وعرفت بهم.. وكانت حياتهم وعلاقاتهم مثالاً يحتذى.. فاختفى من مجالسهم ونواديهم ما غلب على كل ناد.. مما يثير الخلاف أو يوجب الجدال، فانصرفت همتهم إلى العمل بالله لله.
هذه هي مفاهيمهم التي يلتقون عليها، فيجب على الأخ المسلم، حين يختلف في الرأي مع أخيه، أن يتذكر أن لقاءهما لهدف لا يصح التخلي عنه، وهو إقامة منهج الله في الأرض، وأنه محدود بحدود لا يصح مجاوزتها، وهي رابطة القلوب واجتماع الكلمة، فإذا استقر هذا في نفسك ناقشت بقدر، وخالفت بحساب، ووقفت من دراسة الأمر مع أخيك عند القدر الذي يمسك مكانته في قلبك ومكانتك في قلبه.
ومن الواجب أن تستحضر دائماً ما أنذر به القرآن وما حذرت منه السنة، قال - تعالى -: \"وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا \" (الأنفال: 46) \"ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا\" الحديث.
الاجتماع على الأصول: كل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله ويعمل بمقتضاها يلتقي معك في ظل التوحيد وتجمعه وإياك رابطة الإسلام وتعصم دمه وماله وعرضه حرمة الأخوة في الله، فوطّن نفسك على أن يكون هذا في حسك.
ولا تتخفين وراء شهوة الجدل والانتصار إلى ادعاء أن المخالف قد خرج من الملة، وأفضى إلى الردة مهما يكن الأمر المختلف عليه.
إحسان الظن بالمخالف: وتذكر أدب الإمام الشافعي إذ يقول \"ما جادلت أحداً إلا تمنيت أن يظهر الله الحق على لسانه دوني\"، ومتى أحسنت الظن بالمخالف الذي تلتقي معه على الأصول، قربت منه نفسك وقرب منك رأيه فاتبعته إن بدا لك في قوله الحق، وانصرفت عنه في الحالة الثانية وأنت تلتمس له العذر، وهذه أخلاق المسلم الحق الذي ينصر الحق بارتقائه فوق حب الانتصار والتغلب على الآخرين، فكن من هذا النوع الصادق الأمين..
ذم الجدال والمكابرة: لم يكن شيء أبغض إلى رسول الله من الجدال والمكابرة حتى قال: \"ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل\"، \"أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك الجدال وهو مخطئ وببيت في ربضها وفي أعلاها لمن ترك الجدال وهو محق\".
وقد ربى الصحابة على ذم هذه الأشياء والنفور منها لأن رائحتها تزكم الأنوف وتمحق الأخوة بين المؤمنين.
جواز تعدد الصواب: بمعنى أن يكون فريقا الخلاف كل على رأي وكل رأي منهما صواب، وقد استمد هذا التوجيه من هدي رسول الله {يوم رفع إليه أمر خلاف الصحابة في تطبيق قوله: \"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة\" (سيرة ابن هشام)، أصاب من أخذ بحرفية الأمر فأصر على مواصلة السير حتى وصل إلى بني قريظة ولو لم يصل العصر إلا بعد الغروب.
والذي أخذ بروح النص فاكتفى من تنفيذ الأمر بالإسراع في الخروج وآثر الصلاة لوقتها، فإذا الرسول صلوات الله عليه يزكي الرأيين ويثني على الفريقين.
الرثاء للضال لا الشماتة فيه: وهذه الخصلة من الصفات المهمة لمن يسير في حقل الدعوة إلى الله، ويتعامل مع الناس ويصبر عليهم، ذلك أن المخالف في بعض المسائل يكون أحياناً واضح الهوى، بحيث تجد نفسك في حلٍّ, من أن ترميه بالضلال، ولكن أدب المسلم مع هذا الصنف يقتضيك أن تشعر نحوه بالرحمة والرثاء وهو أولى من الشماتة والتشهير، ويعطى الفرصة لعله يعود إلى الصواب.
وكان عمر دائماً يردد: \"لا تعينوا الشيطان على أخيكم ولكن أعينوه على شيطانه\".
هذه بعض الملامح التي لها أثر طيب في حياة المجتمع المسلم من الشعور بالأخوة والبعد عن مظاهر التعصب.
وكل من صحب القرآن وتأمل عصر الصحابة تأكد له أن وحدة المسلمين الأساس الذي لا يضحى منه بمثقال الذرة في سبيل أي هدف آخر. ونشير فيما يلي إلى خلق كريم وهو أدب الخلاف..
أدب الخلاف: حدثنا التاريخ أن الحسن والحسين - رضي الله عنهما - شاهدا في صباهما شيخاً لا يحسن الوضوء، ومنعهما الحياء أن ينكرا عليه، فزعما له أن بينهما خلافاً، أيهما أحسن وضوءاً من الآخر، وأنهما ارتضياه حكماً، فتوضأ كل منهما أمامه فلم يلبث الرجل أن أدرك أن وضوءهما حسن، وأنه هو الذي لا يحسن الوضوء، ثم قام فتوضأ.
وكل مسلم يخرج من حظ نفسه مكلف أن يسلك هذا الطريق.
وأنت يا أخي إذا وجدت من نفسك سعة للإنكار بمثل هذا الأسلوب فما أجمله، فإن عز عليك فكلمة طيبة ونصيحة رقيقة جديرة بأن تهدي إلى الحق وترد إلى المعروف، وقال بعضهم: \"والاختلاف في حد ذاته ليس انتقاصاً للمجتمعات أو أنه سبب في تراجعها، بل على العكس، كلما زاد الاختلاف اكتسب المجتمع قوة، بشرط أن تتوافر الأجواء المطلوبة، وألا تطغى هذه الاختلافات ليتحول المجتمع إلى فوضى، أو ينحرف عن مساره، وإنما يجب أن نستفيد من هذا الاختلاف، كما استفاد منه المسلمون الأوائل الذين تركوا لنا بعده حضارة راقية وعلماً فريداً\".
والخلاف موجود في كل المجتمعات، ولكن لابد أن يحاط بأدب الاختلاف الذي التزمه جيل الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأجيال الصالحة.
ما أجمل خلق الرسول مع معارضيه، فهذا عتبة ترسله قريش مفاوضاً، وعارضاً على الرسول المال والسيادة والعلاج إن كان به مرض أو مس من الجن، وهو يصغي إليه دون مقاطعة، حتى إذا ما انتهى من كلامه الذي يعرف الرسول أنه كلام باطل سخيف، ولكنه أدب الاختلاف الذي التزمه، ليسمع للرأي الآخر دون مقاطعة، قال له \"يا أبا الوليد أفرغت من كلامك، فقال: نعم، قال: إذن، اسمع ما أقول، وأخذ يرتل عليه آيات من القرآن، حتى رجع إلى قومه بغير الوجه الذي ذهب به\" (سيرة ابن هشام).
نحتاج نحن في هذا الزمان، وفي كل زمان ومكان، أن نرتقي إلى أدب النبوة الذي أصل قواعده في هذا الدين العظيم، إذا كنا نريد حقاً الوصول إلى الحق، فعلينا ترك عبادة الذات، وطرح الأحقاد التي تفسد كل شيء، وترك الأضغان التي لا تهلك إلا أصحابها، وهذه الأمراض من أخطر الأمراض على المجتمع والفرد.
وما أجمل أدب الخلاف عند أسلافنا وهو الذي يجب أن نتأسى به وأن نتخلق به في الرضا والغضب إن كنا حقاً ندعو إلى الله أو نرجو الخير للناس.
فهذا هو الشافعي يقول عن مالك: مالك بن أنس معلمي، وعنه أخذت العلم، وإذا ذكر العلماء فمالك النجم.
وهذا هو مالك يقول في أبي حنيفة: لو جاء إلى أساطينكم أي أعمدة البيوت فقايسكم على أنها خشب لظننتم أنها خشب.
وهذا هو الإمام أحمد يقول لابنه: الشافعي - رحمه الله - كالشمس لدينا وكالعافية للناس، فانظر لهذين من خلف أو عوض.
وهذا هو أبو حنيفة يقول عن مالك: ما رأيت أسرع منه بجواب صادق ونقد تام.
ثم جاء زماننا هذا، لتحمر الوجوه، وتنتفخ الأوداج، وتتعالى الأصوات ويزداد التجريح والتكذيب، ويسيطر جو المماراة والجدل العقيم، والانتصار للنفس دون الانتصار للحق عند كل خلاف، فهل هذا هو أدب الخلاف الذي انتهجه (المسلمون الأوائل)؟ وهل هو الطريق للوصول للوحدة التي نريدها؟
نسأل الله أن يجمع القلوب المتشتتة، وتتلاشى سحب الأحقاد والضغائن، وتتآلف الأنفس على طاعة الله واتباع رسوله .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد