منطق الهجرة يهدم النظريات المادية من أساسها


  

بسم الله الرحمن الرحيم

ذكرى الهجرة منارة على الطريق لمن أراد العزة والنصر من المسلمين، وهي درس عظيم، وأمل كبير لأصحاب الدعــوات، وهي في الوقت نفسه هدم لنظريات الماديين من أساسها.

[وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللّهِ مِن بَعدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُم فِي الدٌّنيَا حَسَنَةً وَلَأَجرُ الآخِرَةِ أَكبَرُ لَو كَانُوا يَعلَمُونَ] (النحل: 41).

الهجرة معناها الترك والاجتناب، أو التحول والانتقال، فهي اجتناب لكل ألوان الجاهلية من قيم وتصورات ومفاهيم وعادات، وبهذا أمر الرسول- صلى الله عليه وسلم - من أول لحظة: [يَا أَيٌّهَا المُدَّثِّرُ* قُم فَأَنذِر* وَرَبَّكَ فَكَبِّر* وَثِيَابَكَ فَطَهِّر* وَالرٌّجزَ فَاهجُر] (المدثر: 1-5)، وهجر المألوف وتركه من أشق التكاليف على النفس، لكن الأبرار من أصحاب محمد- صلى الله عليه وسلم - انتصروا في تنفيذ أمر الله، وتحرروا من العبودية لغيره، وحين نطقوا بلا إله إلا الله محمد رسول الله، واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، هجروا حياة الآثام والتدلي إلى الشهوات، وانتقلوا من محيط الجاهلية الآسن إلى فيض الربانية السمح الكريم، وهذه النقلة أهلتهم لهجرة الأوطان والصالح والتضحية بكل شيء لإقامة دار الإسلام وقاعدته الربانية في المدينة.

 

نظرة خاطئة:

إن محاولات تفسير أحداث التاريخ ودوافع السعي البشري وبواعثه على أساس مادي بحت أمر خطير، يقوم على نظرة سطحية تدور حول الهيكل الخارجي للإنسان، وتتجاهل المحرك الأساس لهº وهو العقيدة والإيمان، لقد قالوا: \"إن الإنسان حيوان سياسي\"، بمعنى أن السياسة هي العامل الذي يشكل حياة الإنسان، وقالوا: \"إن الإنسان حيوان اقتصادي\"º أي إن العامل الاقتصادي هو الأساس في حركته، ثم أسرفوا في النظريات فقالوا: \"إن عامل البيئة أو الوراثة هو العامل الأوحد والأهم\".

وأحداث الهجرة ووقائعها الثابتة والظروف التاريخية التي أحاطت بها تثبت فشل هذه النظريات المادية..ذلك أن الإسلام لا يأخذ بجانب واحد من هذه العواملº لأنه مفهوم شامل جامع عميق، يستمد وجهته من الترابط الوثيق بين الدنيا والآخرة، وبين المادة ومتطلباتها، والروح وأشواقها، وصدق الله العظيم: [وَابتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدٌّنيَا وَأَحسِن كَمَا أَحسَنَ اللَّهُ إِلَيكَ وَلَا تَبغِ الفَسَادَ فِي الأَرضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبٌّ المُفسِدِينَ] (القصص: 77).

 

لماذا هاجروا؟

ونتساءل: لماذا هاجر الصحابة هذه الهجرة العجيبة الفذة في عالم الأسفار والرحلات؟ ولأي غاية كانت هجرتهم؟ هل هاجروا طلبًا للثراء؟ أو سعيًا وراء اللذائذ والشهوات؟ أو طلبًا للراحة وللنجاة من المتاعب؟ وهل كانت المسافة بين مكة والمدينة سهلة ميسرة، فأغراهم هذا للقيام برحلة للترويح عن النفس؟

 

ويجيبنا التاريخ الثابت الذي لا مجال لإنكاره بأن شيئًا من ذلك لم يكن لقد، عرضوا على النبي- صلى الله عليه وسلم - في مكة السلطان والملك والقيادة والسيادة والجاه والمال حتى يصير من أغناهم، ورفض- صلى الله عليه وسلم - هذا كله، ورد على من بعثوا إليه بهذه الإغراءات قائلاً: \"ما جئت به لأطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليَّ كتابًا، وأمرني أن أكون بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم\".

 

والثابت أيضًا: أن أبا بكر- رضي الله عنه- أخذ معه يوم الهجرة ستة آلاف هي بقية عشرات آلاف كان يملكها، أنفقها على الدعوة بمكة، كما أن مصعب بن عمير- رضي الله عنه- ترك الجاه والمال، وحياة الترف بسبب اتباعه النبي- صلى الله عليه وسلم - وعاش راضيًا بالحياة الخشنة، حتى كان يرقع قميصه بفروة غنم، وكان- صلى الله عليه وسلم - إذا رآه يقول: \"هذا من نور الله قلبه بالإيمان\"، واستشهد ولم يجدوا له ثوبًا فكفنوه في قميصه القصير، وغطوا رجليه بورق الشجر- رضي الله عنه- والثابت أيضًا أن صهيبًا- رضي الله عنه- حين أراد الهجرة منعته قريش حتى يترك لهم ما معه من مال فتجرد منه، وانطلق إلى المدينة، وفيه نزل: [وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشرِي نَفسَهُ ابتِغَاء مَرضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالعِبَادِ] (البقرة: 207).

 

ولم تكن المسافة بين مكة والمدينة مغرية برحلةº لأن الثابت أن المسافر يستغرق عشرة أيام وعشر ليال في طريق شاق بين جبال ووهاد تموج بالأعراب الرحل، لا يحكمهم قانون، وكل همهم السلب والنهب مع حب الصحابة لمهبط الوحي مكة، وتعلقهم بالبيت، فتركوها وهي من أحب بلاد الله إليهم، فلم يكونوا من الصنف الذي لا يحترم وطنه أو يفرط في بلده، وهذا بلال- رضي الله عنه- في مهجره كثيرًا ما حَنَّ إلى مكة، ولم ينكر عليه أحد.

 

  ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة *** بواد وحولي إذخر وجليل

  وهل أردن يومًا مياه مجنة  ***وهل يبدون لي شامة وطفيل

 

وبماذا يفسر الماديون موقف أبي سلمة- رضي الله عنه- حين خرج مهاجرًا معه زوجه وولده الصغير، فلما رأته قبيلته قاموا إليه فقالوا:

 

هذه نفسك قد غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد؟ وأخذوها منه، وأخذ بنو عبد الأسد ولده الصغير، ومضى هو بمفرده إلى المدينة!

 

وما قولهم في الصحابي المسن المريض الذي لا يستطيع الحركة، الذي استمع إلى قول الله- عز وجل -: [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِم قَالُوا فِيمَ كُنتُم قَالُوا كُنَّا مُستَضعَفِينَ فِي الأَرضِ قَالوَا أَلَم تَكُن أَرضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَـئِكَ مَأوَاهُم جَهَنَّمُ وَسَاءت مَصِيرًا إِلاَّ المُستَضعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالوِلدَانِ لاَ يَستَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهتَدُونَ سَبِيلاً] (النساء: 97- 98)، فقال لأولاده: والله ما لي من عذر، جهزوني للهجرة، فقالوا له: إنك مريض وممن عذر الله، فقال: والله ما لي من عذر، احملوني، فحملوه على محفة فوق بعير، وفي التنعيم فاضت روحه، فقال أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم -: لو بلغ إلينا لتم أجره، وجاء بنوه إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - وأخبروه فأنزل الله- عز وجل -: [وَمَن يُهَاجِر فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِد فِي الأَرضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخرُج مِن بَيتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدرِكهُ المَوتُ فَقَد وَقَعَ أَجرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا] (النساء: 99).

 

دافع الهجرة هو الإسلام:

 

هذه بعض بواعث الهجرة، وإن المذاهب المادية لتعجز عجزًا تامًّا عن تفسير بواعثهاº لأنها لا تؤمن إلا بالمحسوس، فليس للهجرة من تعليل إذن سوى عوالم أخرى غير مادية، ولا نجد شيئًا اقترن بالهجرة غير الإسلام، فهو الدافع والباعث الأساس الذي حررهم من العبودية للوثن، أو للقيصر، أو للفرعون، أو للأرض أو للمال، وأخرجهم من عماية الهوى وحظ الشهوات، وبدأت الرسالة الخاتمة ترسم وجهتهم، وتقرر منهجهم، وتبعث عزائمهم، وتصنع تاريخهم وأخلاقهم وسائر روابطهم.

فالقيمة الكبرى التي تحرك الإنسان هي قيمة الإيمان بالله واليوم الآخر، ولن يستقيم تفسير الهجرة إلا على ضوء هذه النظرة الإيمانية، أما الماديون فقد جهلوا أسرار الحياة وقدر الإنسان.

 

ثم ماذا كانت النتيجة؟ لو كان مقياس الهجرة ماديًّا لانتهى الأمر بالمهاجرين إلى الفقر والمسغبة وسؤال الناس، وضياع الأهل والمال والولد، أما والمهاجرون قد هاجروا لما فوق المادة بما لا حدَّ له، فقد كان جزاء تضحيتهم بكل شيءº كان جزاؤهم أمنًا وأمانًا واستقرارًا ومالاً ومنعة وقوة ودولة، وهكذا من كان كما يريد الله منه كان له من الله ما يريد: ?إِنَّ اللهَ لَقَوِيُّ عَزِيزٌ? (الحج: 40).

وإذا كان المسلمون اليوم تنتابهم محن شداد، فإن عليهم- لصيانة بلادهم وحفظ حاضرهم وضمان مستقبلهم- أن يسلكوا الطريق الذي سار فيه أسلافهم، وأن يأخذوا هذه الرسالة بحقها بتنفيذ أحكامها والنزول على أمرها، وأن يهجروا كل ألوان الجاهليات الحديثة والقديمة، إن ذكرى الهجرة منارة على الطريق لمن أراد العز والنصر، وهي درس عظيم وأمل كبير لأصحاب الدعوات.

[وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيُّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُم فِي الأَرضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ] (الحج: 40- 41).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply