إن محاولات تفسير أحداث التاريخ ودوافع السعي البشري على ظهر الأرض على أساس مادي بحثت أمرًا خطيرًا، وأخطر منه محاولة إخضاع تاريخ الإسلام لهذا الزعم.
فيرى بعضهم: أن الحياة مادة.. وأن الإنسان حيوان اقتصادي، وأن العامل الاقتصادي هو الأساس في حركته وسعيه.
كما يرى آخرون: أن عامل البيئة هو القوة المؤثرة الحاسمة في حياة الناس، كما يزعم غيرهم أن عامل الوراثة هو الأوحد والأهم.
والنظرة الإسلامية لتفسير السعي البشريِّ ودوافعه وبواعثه أشمل وأعمق من هذه النظريات السطحية الساذجة، ذلك أن مفهوم الإسلام لا يأخذ بعامل واحد من هذه العوامل، بل هو مفهوم شامل جامع يستمد وجهته من الترابط الوثيق بين الدنيا والآخرة، وبين المادة والروح: {وَابتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدٌّنيَا} (القصص: 77).
يقول كانتول سميث: \"إن الإسلام يرى لكل حادث دنيوى تفسيرين، ويقيمه بمعيارين: أحدهما وقتي، والآخر أبدي يعود إلى عنصر الإيمان والعقيدة\".
وأحداث الهجرة العظيمة التي نعرض جانبًا من وقائعها وظروفها التاريخية التي أحاطت بها- تهدم هذه النظريات وتثبت فشلها، بل وسذاجتها، وصدق الله العظيم إذ يقول عن أمثال هؤلاء الماديين وسطحيتهم: {يَعلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدٌّنيَا وَهُم عَنِ الآخِرَةِ هُم غَافِلُونَ} (الروم: 7).
لماذا هاجر المسلمون؟
وتسأل الماديين: لماذا هاجر النبي- صلى الله عليه وسلم - هذه الهجرة الفريدة في عالم الأسفار والرحلات؟ ولماذا هاجر أصحابه؟ وما الباعث لهذه الهجرة.
هل كانت هجرتهم طلبًا للثراء؟ أو كانت للنجاة من المتاعب؟ وهل هاجروا وراء الشهوات، أو لأي غرض من أغراض الدنيا؟
وتسأل مرة أخرى:
هل الرحلة بين مكة والمدينة كانت ميسرة، فدعاهم هذا للقيام برحلة سياحية للترفيه عن النفس؟
وهل كان الصحابة- رضوان الله عليهم- من الصنف الذي لا يحب وطنه، ولا يحرص على أهله وعشيرته؟
الحقيقة أن واقع أسلافنا وتاريخهم الثابت يقول: إن شيئًا من هذه التفسيرات وأمثالها لم يكن، ولا يستطيع أعدى أعداء الإسلام أن يثبت أن حادثة واحدة من أحداث الهجرة كانت لأجل هذه المعاني، إن أكثر الصحابة كانوا متوسطي الحال من الناحية المادية، وأبو بكر- رضي الله عنه- أخذ معه يوم هجرته ستة آلاف هي بقية عشرات الألوف كان يملكها، أنفقها كلها على الدعوة، وأعتق المستضعفين من المؤمنين في مكة.. والثابت أن كثيرًا من المسلمين ترك ماله وخرج مهاجرًاº فهذا صهيب الرومي- رضي الله عنه- حين أراد الهجرة منعه مشركو مكة، وطلبوا منه- إن أراد الهجرة أن يترك لهم ما معه من مال، فتخلص من المال وخرج مهاجرًا، وتلقاه عمر وجماعة على أشراف المدينة يبشرونه ويقولون: \"ربح البيع\"، فقال: \"وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم، وما ذاك؟ \"، فيخبرونه أن الله أنزل فيه قرآنًا: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشرِي نَفسَهُ ابتِغَاء مَرضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالعِبَادِ} (البقرة: 207).
وواقع هؤلاء الصفوة أنهم لم يكونوا من الصنف الذي يستهين بوطنه أو لا يحترم أسرته، فقد تركوا مكة، وهي من أحب بلاد الله إلى قلوبهم، وهذا بلال طالما حن إلى مكة حبًّا لها ورفع صوته بهذا الحنين:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة * * * بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يومًا مياه مجنة * * * وهل يبدون لي شامة وطفيل
وكل منصف يعلم أن أغلب المهاجرين كانوا من ذروة قريش نسبًا وحسبًا ومكانة، وأن بلدهم مكة في الذروة، وأن الله امتن عليهم بهذا الشرف: {لِإِيلَافِ قُرَيشٍ,* إِيلَافِهِم رِحلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيفِ* فَليَعبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيتِ* الَّذِي أَطعَمَهُم مِّن جُوعٍ, وَآمَنَهُم مِّن خَوفٍ,} (سورة قريش).
ما هو تفسير الماديين لموقف الصحابي الجليل جندب بن ضمرة حين استمع إلى قوله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِم قَالُوا فِيمَ كُنتُم قَالُوا كُنَّا مُستَضعَفِينَ فِي الأَرضِ قَالوَا أَلَم تَكُن أَرضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَـئِكَ مَأوَاهُم جَهَنَّمُ وَسَاءت مَصِيرًا* إِلاَّ المُستَضعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالوِلدَانِ لاَ يَستَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهتَدُونَ سَبِيلاً* فَأُولَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعفُوَ عَنهُم وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} (سورة النساء: 97 99).
فحين استمع لهذه الآيات وكان بمكة لم يهاجر بعد، وكان مسنًّا مريضًا لا يقوى على احتمال السفر، قال لبنيه: احملوني فإني لست من المستضعفين، وإني لأهتدي إلى الطريق، والله لا أبيت الليلة بمكة. فحملوه على سرير متوجهًا إلى المدينة فمات بالتنعيم. ولما أدركه الموت أخذ يصفق بيمينه على شماله، ثم قال: \"اللهم هذه لك، وهذه لرسولك، أبايعك على ما بايعك عليه رسولك\"، فمات حميدًا، فبلغ خبره أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- فقالوا لو توفي بالمدينة لكان أتم أجرًا، وقال المشركون: \"وهم يضحكون ما أدرك هذا ما طلب\"، فنزلت الآية: {وَمَن يُهَاجِر فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِد فِي الأَرضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخرُج مِن بَيتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدرِكهُ المَوتُ فَقَد وَقَعَ أَجرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (النساء: 100).
لقد عرض المشركون في مكة على النبي- صلى الله عليه وسلم - المال حتى يصبح من أغناهم، وعرضوا عليه الشرف، وأن يسود فيهم، وألا يقطعوا أمرًا من غير مشورته.. وهذه العروض تصدر من قوم آمنوا بالحس وحده.. ثم كان الرفض من النبي- صلى الله عليه وسلم - لكل هذه المساومات، وآثر الخروج والهجرة.
كما أن الثابت أيضًا أن الرحلة بين مكة والمدينة لم تكن تغري بالسياحة والترفيه، فالجو حار والركب مطارد، والمسافر يستغرق عشرة أيام وعشر ليال في طريق شاق بين جبال ووهاد تموج بالقبائل التي لا يحكمها نظام ولا تخضع لقانون، وكل همها السلب والعدوان.
ونستطيع بعد هذا العرض أن نقول: إن المذاهب المادية تعجز عجزًا تامًّا عن تفسير بواعث الهجرة، فليس لها من تعليل إذًا سوى عوامل أخرى- عوامل غير محسوسة، ونبحث فلا نجد شيئًا آخر اقترن بها غير الإسلام، فهو الدافع الأول والباعث الأساس الذي ملأ قلوب هؤلاء الصحابة فغيَّر ما بأنفسهم وعقولهم وقلوبهم، ونقلهم من حال إلى حال.
لقد حررهم من العبودية للأرض والمال، وحررهم من حظوظ النفس وضغط الشهوات، وبدأت العقيدة الربانية ترسم وجهتهم، وتقرر طريقهم، وتبعث عزائمهم، وتصنع تاريخهم وسائر روابطهم.
العوامل الروحية وراء الهجرة:
إن أحداث الهجرة حقائق تاريخية ثابتة لا يمكن أن تفسر على أنها كانت تحت ضغط الحاجة، بل المنطق السليم أنها نتيجة لعوامل روحية ذات أثر في توجيه الإنسان، ولن يستقيم تفسير الهجرة إلا على ضوء هذه النظرة الإيمانية.
يقول المستشرق \"ديوارثت\": \"استطاع محمد- صلى الله عليه وسلم - في جيل واحد أن ينتصر في معاركه، وفي قرن واحد استطاع أن ينشئ دولة عظيمة، وأن يبقي إلى وقتنا هذا قوة ذات أثر وخطر عظيم في العالم، وقد نجح في الإصلاح نجاحًا لم يدانه فيه أي مصلح في التاريخ، لقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي والأخلاقي لشعب عاش في دياجير الهمجية وحرارة الجو وجدب الصحراء، وقد وصل إلى كل ما يبتغيه عن طريق الدين، ولم يكن ذلك لأنه كان شديد التمسك بالدين وكفى، بل لأنه لم تكن ثمة قوة غير قوة الدين تدفع العرب إلى سلوك الطريق الذي سلكوه\".
لقد جهل الماديون أسرار الحياة وقدر الإنسان حين فسروا كل البواعث على أساس مادي.. وإن علة المسلمين اليوم في نفوسهم، فهل تنبعث قوة الإيمان الصادق فيقبلون بها على الحياة تقاة معتمدين على ربهم ليحققوا ما يُرتَجَى لهم من نهضة رشيدة تكون خيرًا لهم في دينهم ودنياهم؟ {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ, حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم} (سورة الرعد: 11).
الهجرة ممتدة:
ما دام الصراع بين الحق والباطل يقول الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم -: \"إن الشيطان قعد لابن آدم ثلاث مقاعد: قعد له في طريق الإسلام فقال: لم تذر دينك ودين آبائك؟ فخالفه وأسلم، وقعد له في طريق الهجرة فقال له: أتذر مالك وأهلك؟ فخالفه وهاجر، ثم قعد له في طريق الجهاد فقال له: تجاهد فتقتل فيُنكَح أهلك ويقسم مالك؟ فخالفه فجاهد، فمن فعل ذلك كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة، ومن قتل كان حقًّا على الله- عز وجل - أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة، أو وقصته دابته كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة\" (سنن النسائي ج3).
لا تزال الهجرة تمثل ومضة النور في تاريخ الحضارة الإسلامية، فهي الأمل المتجدد بعد اليأس القاتل، وهي القوة الغالبة بعد الضعف والهوان، وهي النصر المبين بعد القهر والذل.
وهي منطلق دولة الإسلام العظيمة التي أنارت العقول والقلوب، وأخرجت الناس من الظلمات إلى النور، والمسلمون اليوم- وقد وهن منهم العزم، واستبد القنوط بأكثرهم حين يعيشون أحداث الهجرة- يحيا فيهم الأمل والرجاء والعزة والسيادة، والقوة والانتصار.
ومعنى الهجرة حي في ضمير كل مسلم وفي وجدان كل مؤمن، لقد كانت الهجرة فيصلاً بين مرحلتين، مرحلة بناء العقيدة وتربية الرجال في مكة، ومرحلة بناء قواعد الدولة وحراستها في المدينة.
لقد تغير المناخ فأصبح المهاجرون وسط محيط حبيب ودود: {يُحِبٌّونَ مَن هَاجَرَ إِلَيهِم وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِم حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِم وَلَو كَانَ بِهِم خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ} (الحشر: 9).
إن ظاهرة الهجرة تمتد مع حملة الرسالات السماوية منذ خطت البشرية على ظهر الأرض، مع اختلاف الزمان والمكان، حتى إن من كذب رسولاً واحدًا فقد كذب جميع الرسل والأنبياء، ومن جحد رسالة واحدة فقد جحد جميع الرسالات، قال الله - تعالى - في سورة الشعراء: {كَذَّبَت قَومُ نُوحٍ, المُرسَلِينَ} (الشعراء: 105)، وقوم نوح لم يُكَذِّبوا إلا نوحًا، لكن نظرًا لأن الرسالات في أصلها واحدة، وهي دعوة إلى توحيد الله، وإخلاص العبودية له، فمن كذب بها فقد كذب بالمرسلين جميعًا، فهذه دعوتهم أجمعين، فالناس في كل زمان ومكان إما أتباع الرسل، وإما جنود الشيطان، وتنقسم البشرية على مدار التاريخ إلى صفين: صف المؤمنين وصف الكافرين، ويتسع أفق المسلم، وهو ينظر إلى الأمة المؤمنة بكل دين سماوي وكل عقيدة من عند الله، فهي أمته منذ فجر التاريخ إلى مطلع النور والحضارة، ومشرق الإسلام دين التوحيد الأخير، قال الله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ يَكفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَينَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤمِنُ بِبَعضٍ, وَنَكفُرُ بِبَعضٍ, وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَينَ ذَلِكَ سَبِيلاً* أُولَـئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعتَدنَا لِلكَافِرِينَ عَذَابًا مٌّهِينًا* وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَم يُفَرِّقُوا بَينَ أَحَدٍ, مِّنهُم أُولَـئِكَ سَوفَ يُؤتِيهِم أُجُورَهُم وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (النساء: 150- 152).
وقال الله - تعالى -: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيهِ مِن رَّبِّهِ وَالمُؤمِنُونَ كُلُّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَينَ أَحَدٍ, مِّن رٌّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعنَا وَأَطَعنَا غُفرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيكَ المَصِيرُ} (البقرة: 285).
فالتفرقة بين رسل الله لا تقوم في نفس المؤمن أبدًاº لأنها قرينة الكفر، فكل الرسل جاءوا من عند الله في صورة تناسب حال القوم الذين أرسلوا إليهم، حتى انتهى الأمر إلى خاتم النبيين محمد- صلى الله عليه وسلم - فجاء بالشريعة الأخيرة للدين الواحد لتقوم أمة الإسلام بدورها في الدعوة إلى الله لانتشال البشرية كلها من الضلال، وردها إلى ربها إلى يوم القيامة.
لقد تلقت أمة الإسلام ميراث الرسالات جميعًا، قال - تعالى -: {وَكَذَلِكَ جَعَلنَاكُم أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيكُم شَهِيدًا} (البقرة: 143).
المسلمون هم الحراس على أعز وأغلى رصيد عرفته البشرية في تاريخها الممتد، وهم المصطفون لحمل الراية: {كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ, أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللّهِ} (آل عمران: 110).
{وَلتَكُن مِّنكُم أُمَّةٌ يَدعُونَ إِلَى الخَيرِ وَيَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولَـئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ} (آل عمران: 104).
إن راية الإسلام وحدها هي التي تستطيع أن تواجه كل الرايات وكل الشارات الأرضية.. الرايات القومية والوطنية، والجنسية، والعنصرية، والصهيونية، والصليبية، والإلحادية، والعلمانية.
راية الإسلام شعارها التوحيد والأخوة والإيمان والبناء وجمع الكلمة بين الشعوب، أما الرايات الأخرى فشأنها الإفساد والتمزيق، وتقطيع روابط الأمم، وإشاعة العداوات والبغضاء، وإيقاد الحروب، وإثارة الفتن والواقع الذي نعيش فيه اليوم خير دليل وشاهد على صدق ما نقول.
الهجرة والتنظيم المحكم:
حين رأت قريش موكب الهجرة المتتابع تأكدت أن إمامهم وقائدهم- صلى الله عليه وسلم - سيلحق بهم إن لم يكن اليوم فغدًا، فاجتمعوا في دار الندوة، وأصدروا القرار النهائيº وهو التخلص من صاحب الدعوة، ووافق الجميع على هذا. وأشار القرآن إلى ما قرره هؤلاء الفجرة، فقال: {وَإِذ يَمكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثبِتُوكَ أَو يَقتُلُوكَ أَو يُخرِجُوكَ وَيَمكُرُونَ وَيَمكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيرُ المَاكِرِينَ} (الأنفال: 30).
قال الإمام أحمد: \"حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، أخبرني عثمان الجريرى عن معشم مولى ابن عباس، أخبره ابن عباس في قوله: {وَإِذ يَمكُرُ بِكَ} قال: تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق- يريدون النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه، فأطلع الله نبيه- صلى الله عليه وسلم - على ذلك فبات عليُّ- رضي الله عنه- على فراش رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وخرج النبي حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليًّا يحسبونه النبي- صلى الله عليه وسلم - فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوه عليًّا، رد الله عليهم مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدرى، فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا في الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال\" (رواه الإمام أحمد).
وكان لابد من مواجهة هذا الكيد، بكيد أكبر منه يمحقهº ولذلك جاء قرار الهجرة في وقته.
ويعلق صاحب الظلال على كيد قريش ومكرها برسول الله فيقول: \"والصورة التي يرسمها قوله - تعالى -: {وَيَمكُرُونَ وَيَمكُرُ اللّهُ} صورة عميقة التأثير.. ذلك حين تتراءى للخيال ندوة قريش، وهم يتآمرون ويتذاكرون ويدبرون ويمكرون، والله من ورائهم محيط.. يمكر بهم ويبطل كيدهم، وهم لا يشعرون، إنها صورة ساخرة، وهي في الوقت ذاته صورة مفزعة، فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل من تلك القدرة القادرة، قدرة الله الجبال القاهر فوق عباده، الغالب على أمره، وهو بكل شيء محيط؟ \" (في ظلال القرآن- الجزء التاسع- تفسير سورة الأنفال).
أوحى الله إلى رسوله- صلى الله عليه وسلم - بالهجرة، وأذن له فيها، وبدأ الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- يتخذ الأسباب، وينظم أمور الهجرة، وفي إيجاز شديد نشير إلى بعض التنظيمات الدقيقة التي اتخذت في الهجرة، وكانت من أسباب نجاحها ووراء الفوز الكبير الذي كتب للمهاجرين.
وأول ما نلاحظه من دقة التنظيم الآتي:
1- أن قرار الهجرة اتخذ من جانب الرسول- صلى الله عليه وسلم - في سرية تامة.
2- لم يعلم به إلا أبو بكر وأهله، وعلي بن أبي طالب، ثم الأشخاص الذين كلفوا بأعمال تتصل بالهجرة.
3- اختيار مكان الغار في الجنوب الشرقي، بينما اتجاه النبي- صلى الله عليه وسلم - أصلاً إلى الشمال مباشرة أو إلى الغرب عن طريق الساحل إلي المدينة، وفي هذا تمويه على الأعداء.
4- اختيار مكان يشق على الأعداء أن يصلوا إليه فالغار في أعلى الجبل حتى إن الرسول- صلى الله عليه وسلم - لم يصل إليه إلا بعد مشقة، وقد دميت أقدامه.
5- تنظيم وصول الأخبار إليه لمعرفة ما يفكر فيه أهل مكة، ويقوم بهذه المهمة عبد الله بن أبي بكر، فهو طول النهار يتتبع الأخبار في مكة، وفي المساء يصعد إلي الغار ليبلغ ما سمعه إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم -.
6- تنظيم أمر الطعام والشراب والمواعيد المناسبة لذلك، فعامر بن فهيرة مولى أبي بكر وراعي غنمه يروح بالأغنام على الغار للاستفادة من ألبانها ولحمها.
7- يقوم في الوقت نفسه بتغطية آثار الأقدامº حتى لا يتتبعها المشركون وتوصلهم إلى الغار.
8- تنظيم الاتصالات، فعامر بن فهيرة يتصل بعبد الله بن أريقط، بينما عبد الله بن أبى بكر على صلة ببقية أفراد بيت أبى بكر.
9- خرج النبي- صلى الله عليه وسلم - من بيته في وقت غير مألوف، وسلوكه إلى بيت أبى بكر طريقًا غير مألوف.
10- مخادعته لمن يحاصرون داره، فيأمر عليًّا أن ينام على فراشه، وأن يتغطى ببردته.
11- خروجه مع أبى بكر من خَوخة في ظهر الدار.
12- اختيار الدليل الماهر ليدل على الطريق (عبد الله بن أريقط) وكان مشركًا.
13- تنظيم رد الودائع والأمانات إلى أهلها، واختيار علي بن أبي طالب ليقوم بهذه المهمة، وهو أعلم الناس بهذه الأمور.
14- الحذر الكامل من أبي بكر وخوفه على النبي وهما في الطريق إلى الغارº تارة يمشى خلف النبي، وتارة بين يديه، وتارة عن يمينه وتارة عن شماله.
لقد كانت طبيعة العمل عند أسلافنا معاناة مستمرة وكفاحًا متواصلاً، وتنظيمًا فائقًا لكل شيء، من أجل الوصول إلى الهدف المقصودº ولذلك كانت نتائج أعمالهم طيبة في كل نواحي الحياة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد