الخطبة الأولى:
عباد الله، ما زلنا سويًّا نَنهَلُ من سيرة النبي العطرة، نقطف من بستان أخلاقه الزهرة تلو الزهرة، ونتنسّم من شمائله العَذبة النقيّة ما نصلح به سلوكنا، ونقوّم به حياتنا، ونرفع به درجاتنا.
وحديثنا اليوم عن خلق عظيم من أخلاقه العظيمة التي وصفها الله جميعها بالعظمة، حيث قال - سبحانه -: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ, عَظِيمٍ,} [القلم: 4]. سنتحدّث اليوم عن خلق كَظم الغيظ والعفو عند المقدرة.
والغيظ هو سَورَةُ الغضب وشدّته، مما يحدث تغيّرًا في نفس المغتاظ نتيجة حرارة ثوران دمه ورغبته في الانتصار، وكَظم الغيظ هو حفظ النفس وكفّ الغضب الشديد عن إمضائه مع القدرة على إيقاعه، أما العفو فهو الصّفح وعدم المعاقبة على الجَرِيرَة والخطأ.
ولقد نال النبي من هذا الخلق أعلاه وأرفعه، وأظهر من آيات الصفح والعفو جميلها وجليلها، فقد عفا النبي عن أخطاء من أساء إليه، سواء كان المخطئ قريبًا أو بعيدًا، عدوًّا أو صديقًا، ما لم يكن مُنتهِكًا لحرمات الله، كما قال عنه أنس بن مالك: وما انتقم رسول الله لنفسه قط، إلا أن تُنتهَك حرمة لله فينتقم. رواه مسلم.
فهَلُمّ بنا لنرى صفحات مضيئة من عفو النبي، وأول هذه الصفحات عفوه عن أخطاء زوجاته.
روى البخاريّ عن عائشة: كان المسلِمون يعلَمون حُبَّ رسول الله لعائشة، فإذا أراد أحدهم أن يهديَ إلى رسول الله هديّة أخَّرَها، حتى إذا كان رسول الله في بيت عائشة بعث صاحب الهدية إلى رسول الله في بيت عائشة، فأرسلت زوجاتُ النبي أمَّ سلمة يطلبن منه أن يأمر الصحابة أن يرسلوا هداياهم مع النبي حيث كان، ففعلت، فقال لها: ((لا تؤذيني في عائشةº فإن الوحي لم يأتني وأنا في ثوب امرأة ـ يعني فراشها ـ إلا عائشة))، فقالت: أتوب إلى الله ورسوله، ثم أرسلن فاطمة، فقال لها: ((يا بُنيّة، ألا تحبّين ما أحب؟!)) قالت: بلى، فرجعت وأخبرتهنّ بما يحب رسول الله، فأرسلن زينب بنت جحش - رضي الله عنها ـ وكانت بها حِدَّة - رحمها الله ـ فأتت النبي فأغلظت، وقالت: إن نساءك ينشدنك العدل في بنت أبي قُحَافة، فرفعت صوتها حتى تناولت عائشة وهي قاعدة فسبّتها، تقول عائشة: وأنا أرقب رسول الله، وأرقب طَرفَه: هل يأذن لي فيها؟ فلم تبرح زينب حتى عرفتُ أن رسول الله لا يكره أن أنتصر، قالت: فلما وقَعتُ بها لم أَنشَبها ـ لم أُمهِلها ـ حتى أَنحَيتُ عليها ـ أَفحَمتُها ـ، فتبسّم رسول الله وقال: ((إنها ابنة أبيها، إنها ابنة أبي بكر)).
انظروا ـ يا رعاكم الله ـ كيف عرف رسول الله طبيعة المرأة وضعفها في المواقف وسرعة ثورتها، حتى إنها لم تدرك وصفها لرسول الله بترك العدل، بل وأسرعت إلى عائشة وسبّتها ورسول الله جالس، بل وأغلظت القول للنبي بأكثر من ذلك، وعلى الرغم من هذا كله لم يؤاخذها ولم يعاتبها، بل ترك المجال لعائشة أن تدفع عن نفسها، وعفا هو عن حقّه.
ومن ذلك أيضًا ما حَدَث من عائشة عندما أهدت بعض زوجات النبي إليه قَصعَة بها طعام ـ وهو في بيت عائشة ـ فغارت عائشة - رضي الله عنها -، وكسرت الصَّحفَة، فقال النبي: ((غارت أمكم، غارت أمكم))، ثم قال: ((صَحفَة مكان صَحفَة، وإناء مكان إناء)) أخرجه البخاري.
ومن صفحات عفوه عفوه عن خادمه، عن أنس بن مالك قال: خدمت النبي عشر سنين، فما قال لي قط لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء تركته: لم تركته؟ رواه مسلم. لا شكّ أن الخادم يخطئ، وتتعدّد أخطاؤه، ولكن مع العفو تقلّ هذه الأخطاء حتى تكاد تنعدم. فهذا رسول الله طيلة عشر سنين لم يؤاخذ أنسًا على خطأ فعله، حتى إن أنسًا ـ كما ورد في روايات صحيحة ـ طلب منه رسول الله فعل شيء فأقسم أنس أن لا يفعله، ومع ذلك لم يعنّفه رسول الله، ولم يعاقبه، بل طلب منه برفق في وقت آخر ففعله.
أيها الأحبة في الله، إن الخدم فئة من إخواننا، جعلهم الله تحت أيدينا، وأمرنا بالإحسان إليهم، نطعمهم مما نطعم، ونسقيهم مما نشرب، ولا نكلّفهم فوق طاقتهم، فإن كلّفناهم فوق طاقتهم فلنُعِنهُم عليه، قال: ((إخوانكم خَوَلُكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم)) أخرجه البخاري. فإن أخطأ الخدم فلا نسارع إلى عقوبتهم، ولنعفو عنهم ونصفح، حتى ولو تعدّد منهم الخطأ.
عن ابن عمر قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: كم نعفو عن الخادم؟ فصمت، ثم أعاد عليه الكلام فصمت، ثم أعاد عليه الكلام، قال: ((اعفوا عنه في كل يوم سبعين مرة)) رواه أبو داود وصحّحه الألباني.
من صفحات عفوه عفوه عمن أساء إليه، عن أنس قال: كنت أمشي مع رسول الله وعليه بُرد نَجرَانِي غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجَبَذَهُ بردائه جَبذَة شديدة، فنظرت إلى صَفحَة عاتِق النبي وقد أثّرت به حاشية الرداء من شدة الجَبذَة، ثم قال: يا محمد، مُر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت النبي إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء. أخرجه البخاري. سبحان الله! رجل غليظ الطباع سيئ المعاملة يؤلم النبي ولا يحسن المعاملة، ومع ذلك يضحك النبي في وجهه، ويأمر له بالعطاء، يكظم غيظه ويعفو، بل ويتفضّل بالعطاء.
عن جابر بن عبد الله قال: غزوت مع النبي قِبَل نجد، فلما قَفَل رسول الله قَفَلتُ معه، فأدرَكَتهم القَائِلةُ في واد كثير العَضَاة، فنزل رسول الله تحت شجرة وعلّق بها سيفه، ونمنا نومة، فإذا رسول الله يدعونا، وإذا عنده أعرابي، فقال: ((إن هذا اختَرَط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صَلتًا، فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله، فسقط السيف من يده)) فأخذ النبي السيف، وقال: ((من يمنعك مني؟)) فقال: كن خير آخذ، فعفا عنه النبي ولم يعاقبه. رواه البخاري.
تأمل ـ يا رعاك الله ـ إلى هذه الأخلاق السامية الفاضلة، يكظم غيظه عمن أراد قتله، ثم يعفو عنه، فهو يعلم الجزاء العظيم لمن كظم غيظه، قال: ((من كظم غيظًا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيّره من الحور العين ما شاء)) رواه الترمذي بسند حسن.
لم يتوقف عفو النبي على ترك عقوبة من أساء إليه، بل إنه يتمنّى له الخير، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: قلت لرسول الله: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: ((لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العَقَبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يالِيل بن عبد كِلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقَرن الثَّعَالِب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلّتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله - عز وجل - قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث إليك مَلَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. قال: فناداني مَلَك الجبال وسلّم عليّ، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا مَلَك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت، إن شئت أن أُطبِقَ عليهم الأَخشَبَين؟)) فقال له رسول الله: ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك)) رواه البخاري.
فعلى الرغم من شدة إيذائه إلا أنه تمنّى لهم الخير، ولم يُرِد بهم الضر، بل بلغ عفوه أنه كان يدعو للقوم بعد ما أصابوه في غزوة أحد، عن ابن مسعود قال: كأني أنظر إلى النبي يحكي نبيًا من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ضربه قومه فأَدمَوه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: ((رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) رواه البخاري. دعا بهذا نوح - عليه السلام -، ثم رسول الله في غزوه أحد.
وأعظم من ذلك عفوه عن أهل مكة الذين آذوه وآذوا أصحابه، بل وأخرجوه منها وهو كاره، كما قال: ((والله، لولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت)) حديث صحيح. وبعد أن مَكَّنه الله من رقابهم عفا عنهم.
نسأل الله أن يرزقنا العفو والعافية والمعافاة في الدين والدنيا والآخرة.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين فاستغفروه، إنه هو البرّ الغفور الرحيم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد