يستفاد من الهجرة الشريفة دروس عظيمة، ويستخلص منها فوائد جمة، ويُلحظ فيها حكم باهرة، يُفيد منها الأفراد، وتُفيد منها الأمة بعامة، وذلك في شتى مجالات الحياة، ومن تلك الدروس والفوائد والحكم ما يلي:
1/ ضرورة الجمع بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب: فالتوكل في لسان الشرع يراد به توجه القلب إلى الله حال العمل، واستمداد المعونة منه، والاعتماد عليه وحدهº فذلك سر التوكل وحقيقته، والذي يحقق التوكل هو القيام بالأسباب المأمور بهاº فمن عطلها لم يصحَّ توكلهº فلم يكن التوكل داعية إلى البطالة أو الإقلال من العمل، بل لقد كان له الأثر العظيم في إقدام عظماء الرجال على جلائل الأعمال التي يسبق إلى ظنونهم أن استطاعتهم وما لديهم من الأعمال الحاضرة يَقصُران عن إدراكهاº ذلك أن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المراد ودفع المكروه، بل هو أقواهاº فاعتماد القلب على الله - عز وجل - يستأصل جراثيم اليأس، ويجتث منابت الكسل، ويشد ظهر الأمل الذي يلج به الساعي أغوار البحار العميقة، ويقارع به السباع الضارية في فلواتها.
هذا ولرسول الله - عليه الصلاة والسلام - القِدحُ المُعلَّى، والنصيب الأوفى من هذا المعنىº فلا يُعرَفُ بَشَرٌ أحق بنصر الله، وأجدر بتأييده من هذا الرسول الذي لاقى في جنب الله ما لاقى، ومع ذلك فإن استحقـاق التأيـيد الأعـلى لا يعني التفريط قيد أنملة في استجماع أسبابه وتوفير وسائله.
ومن ثم فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحكم خطة هجرته، وأعد لكل فرض عُدَّتَه، ولم يدع في حسبانه مكاناً للحظوظ العمياء، ثم توكل بعد ذلك على من بيده ملكوت كل شيء.
وكثيرًا ما يرتب الإنسان مقدمات النصر ترتيباً حسناً، ثم يجيء عَونٌ أعلى يجعل هذا النصر مضاعف الثمار.
ولقد جرت هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة على هذا الغرارº فقد استبقى معه أبا بكر وعلياً - رضي الله عنهما - ، وأذن لسائر المؤمنين بتقدمه إلى المدينة، فأما أبو بكر فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال له حين استأذنهº ليهاجر: \" لا تعجلº لعل الله أن يجعل لك صاحباً \".
وأحـس أبو بـكر بـأن الرسـول - صلى الله عليه وسلم - يعنـي نفسـه بهذا الـرّد، فـابتـاع راحلتين، فحبسهما في داره يعلفهما، إعداداً لذلك الأمر.
أما عليٌ فقد هيّأهُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - لدور خاص يؤديه في هذه المغامرة المحفوفة بالأخطار، ألا وهي مبيت علي في مكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد الخروج إلى المدينة.
ويلاحظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتم أسرار مسيرهº فلم يطلع عليها إلا من لهم صلة ماسة، ولم يتوسع في إطلاعهم إلا بقدر العمل المنوط بهم.
ثم إنه استأجر خبيراً بطريق الصحراءº ليستعين بخبرته على مغالبة المُطَالِبين، وهو عبد الله بن أُريقط الليثي، وكان هادياً ماهراً بالطريق، وكان على دين قومه قريش، فَأَمَّناه على ذلك، وسلَّما إليه راحلتيهما، وواعداه في غار ثور بعد ثلاث.
ومع هذه الأسبـاب لم يتكل عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - بل كان قلبه متعلقاً بالله - عز وجل - فجاءه التوفيق والمدد والعون من الله.
ويشهد لذلك أنه لما أبقى علياً - رضي الله عنه - ليبيت في مضجعه، وهمَّ بالخروج من منزله الذي يحيط به المشركون، وتقطعت أسباب النصر الظاهرة، ولم يبق من سبب إلا سنةُ تأييد الله الخفية ـ أخذ حصيات ورمى بها وجوه المشركينº فأدبروا.
وكذلك الحال لما كان في الغار، ففي الصحيحين أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: \" يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزنº فإن الله معنا \".
والدرس المستفاد من هذه الناحية هو أن الأمة التي تريد أن تخرج من تيهها، وتنهض من كبوتها لا بُدّ أن تأخذ بأسباب النجاة وعُدَد النهوض، ثم تنطوي قلوبها على سراج من التوكل على الله، وأعظم التوكل على الله، التوكل عليه - عز وجل - في طلب الهداية، وتجريد التوحيد، ومتابعة الرسول، وجهاد أهل الباطل، وحصول ما يحبه الله ويرضاه من الإيمان، واليقين، والعلم، والدعوةº فهذا توكل الرسل، وخاصة أتباعهم.
وما اقترن العزم الصحيح بالتوكل على من بيده ملكوت كل شيء إلا كانت العاقبة رشداً وفلاحاً (فَإِذَا عَزَمتَ فَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبٌّ المُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159].
وما جمع قوم بين الأخذ بالأسباب وقوة التوكل على الله إلا أحرزوا الكفاية لأن يعيشوا أعزة سعداء.
2/ ضرورة الإخلاص، والسلامة من الأغراض الشخصية: فالإخلاص روح العظمة، وقطب مدارها، والإخلاص يرفع شأن الأعمال حتى تكون مراقي للفلاح، والإخلاص يجعل في عزم الرجل متانة، فيسير حتى يبلغ الغاية.
ولولا الإخلاص يضعه الله في قلوب زاكيات لحُرم الناس من مشروعات عظيمة تقف دونها عقبات.
ومن مآخذ العبرة في قصة الهجرة أن الداعي إلى الإصلاح متى أوتي حكمة بالغة، وإخلاصًا نقيَّـاً، وعزماً صارماً هَيَّـأَ الله لدعوته بيئة طيّبة فتقبُلها، وزيَّنها في قلوب قوم لم يلبثوا أن يسيروا بها، ويطرقوا بها الآذان، فَتُسِيغـها الفـطـرُ السليمةُ، والعقـول التي تقـدّر الحُجـج الرائـعـة حـق قدرها.
وهكذا كان - صلى الله عليه وسلم - فلم يرد بدعوته إلا الإخلاص لله، وإخراج الناس من الظلمات إلى النورº فكان متجرداً من حظـوظ النفـس ورغائبهاº فما كان ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ خاملاًº فيطلب بهذه الدعوة نباهة شأن ووجاهةº فإن في شرف أسرته، وبلاغة منطقه، وكرم خلقه ما يكفيه لأن يحرز في قوم الزعامة لو شاء.
وما كان مُقِلاً حريصاً على بسطة العيشº فيبغي بهذه الدعوة ثراءًº فإن عيشه يوم كان الذهب يصب في مسجده رُكاماً لا يختلف عن عيشه يوم كان يلاقي في سبيل الدعوة أذىً كثيراً.
ثم إن الهجرة كان دليلاً على الإخلاص والتفاني في سبيل العقيدةº فقد فارق المهاجرون وطنهم، ومالهم، وأهليهم، ومعارفهمº إجابة لنداء الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا درس عظيم يفيد منه المسلمون فائدة عظمى وهي أن الإخلاص هو السبب الأعظم لنيل المآرب التي تعود على الأفراد والأمة بالخير
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد