بعدما كسرت شوكة جناحين من الأحزاب: اليهود، ومشركي مكة من قبل المسلمين، بقي جناح ثالث: وهم الأعراب القساة الضاربين في فيافي نجد، والذين ما زالوا يقومون بأعمال النهب والسلب بين وقت وآخر، فأراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - تأديبهم، وإخماد نار شرهم.
ولما كانوا بدواً لا بلدة أو مدينة تجمعهم، بات لا يجدي معهم سوى حملات التأديب والتخويف، فكانت غزوة ذات الرقاع.
وقد اختلفت كتب السيرة في تحديد وقت هذه الغزوة، فذهب ابن إسحاق إلى أنها وقعت في السنة الرابعة للهجرة، وعند الواقدي و ابن سعد أنها في الخامسة، بينما يرى الإمام البخاري أنها كانت بعد غزوة خيبر، وهذا الذي رجحه الحافظ ابن حجر في فتح الباري والإمام ابن القيم في زاد المعاد، ولعل هذا القول هو الأرجحº لأن الغزوة قد حضرها أبوموسى الأشعري - رضي الله عنه - وهو قد قدم من الحبشة بعد خيبر، كما أن أبا هريرة - رضي الله عنه - قد شهد تلك الغزوة، وإنما أسلم في غزوة خيبر، أضف إلى ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صلى فيها صلاة الخوف، وهي لم تُشرع إلا في السنة السادسة من الهجرة.
أما من توهم أنها حدثت قبل غزوة الأحزاب، فلعل منشأ وهمه ما ورد في أحداث غزوة ذات الرقاع من زواج جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -، مع ثبوت زواجه أيضاً في غزوة الخندق، فظنّ أن ذلك دليل على حصول الغزوة قبل الخندق، والحق أن جابرا - رضي الله عنه - قد تزوّج امرأتين، هما سهيمة بنت مسعود، و أم الحارث بنت محمد بن مسلمة، كما ذكر ذلك ابن سعد في \" الطبقات \".
والحاصل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع باجتماع قبائل: أنمار أو بني ثعلبة، وبني محارب من غطفان، فأسرع بالخروج إليهم في أربعمائة أو سبعمائة من الصحابة، وخلّف على المدينة أبا ذر، وقيل عثمان بن عفان، وسار متوغلاً في بلادهم حتى وصل إلى موضع يقال له نخل، ولقي جمعاً من غطفان، فتقابلوا ولم يكن بينهم قتال، إلا أنه صلى بالصحابة صلاة الخوف، فعن جابر قال: (خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذات الرقاع من نخل، فلقي جمعاً من غطفان، فلم يكن قتال، وأخاف الناس بعضهم بعضاً، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتي الخوف) رواه البخاري.
وكان الصحابة - رضي الله عنهم - كل ستة منهم يتعاقبون على ركوب بعير، حتى تمزقت خفافهم، ولفّوا على أرجلهم الخرقº ولذلك سميت الغزوة بذات الرقاع، ففي الصحيحين عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: (خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزاة، ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا، ونقبت قدماي، وسقطت أظفاري، وكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسُمِّيت غزوة ذات الرقاعº لما كنا نعصب من الخرق على أرجلنا)، وإن مثل هذا الوصف ليدلنا على عظم المشقات التي تخللت تلك الغزوة، وعلى الرغم من ذلك فقد واجه الصحابة رضوان الله عليهم تلك الصعوبات بعزيمة لا تلين، وهمة لا تضعف.
ومما صاحب هذه الغزوة قصة الأعرابي، ففي البخاري، عن جابر - رضي الله عنه -، أنه أي جابر - غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناحية نجد، فلما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجع جابر معه، فأدركتهم القائلة أي نوم الظهيرة - في وادٍ, كثير الهوام، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتفرّق الناس يستظلون بالشجر، ونام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة وعلّق بها سيفه، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو الصحابة، وإذا عنده أعرابي فقال: (إن هذا اخترط عليّ سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا، فقال من يمنعك مني؟ فقلت: الله ثلاثاً -.
وعند الإمام أحمد بسند صحيح أن الأعرابي قام على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسيف، فقال: من يمنعك مني؟ قال: الله - عز وجل -، فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: من يمنعك مني؟ ، فقال: كن كخير آخذ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ ، قال: لا ولكني أعاهدك أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلى سبيله، فذهب الأعرابي إلى أصحابه فقال لهم: \" قد جئتكم من عند خير الناس \".
وفي طريق العودة من الغزوة، أصاب المسلمون امرأة من المشركين وجعلوها في السبي، فحلف زوجها أن لا يرجع حتى يهريق دماً في أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فخرج يتبع أثر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - منزلا فقال: من رجل يكلؤنا ؟ - أي يحرسنا - ، فانتدب رجلاً من المهاجرين ورجلاً من الأنصار، وهما عباد بن بشر و عمّار بن ياسر - رضي الله عنهم -، فقال: كونا بفم الشعب، فلما خرج الصحابيّان إلى فم الشعب قال عباد لصاحبه: \" أيٌّ الليل أحب إليك أن أكفيكه؟ أوله أو آخره؟ - يعني: أي جزء من الليل تحبّ أن أحرس فيه بدلاً عنك -؟ \" فقال له: \" بل اكفني أوله \"، فاضطجع عمار فنام، وقام عباد يصلي، وأتى زوج المرأة فضرب عباداً بسهم، فنزع السهم ولم يقطع صلاته، حتى رماه بثلاثة سهام وهو مع ذلك قائم يصلي، حتى ركع وسجد، ثم استيقظ عمار وهبّ لقتل الرجل، فلما عرف أنهم قد قصدوه لقتله هرب.
ولما رأى عمار ما بعباد من الدم قال له: \" سبحان الله، ألا انبهتني أول ما رمى؟، فقال له: كنت في سورة أقرأها، فلم أحب أن أقطعها \".
ومما ورد في هذه الغزوة أيضاً، قصة توضّح أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - من تفقّده لشؤون أصحابه وسؤاله عنهم، ومواساته لهم بالمال والنصيحة، والوقوف على ما يقعون فيه من البأساء وقلة ذات اليد، تلك هي قصة جابر - رضي الله عنه - حيث قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزاة، فأبطأ بي جملي وأعيا، فأتى عليّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (جابر؟ )، فقلت: نعم، قال: (ما شأنك؟ )، قلت: أبطأ عليّ جملي وأعيا فتخلفت، قال: (فأنِخه)، وأناخ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: (أعطني هذه العصا من يدك - أو قال اقطع لي عصا من شجرة -) ففعل جابر، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنخسه بها نخسات ثم قال: (اركب) فركبت، يقول جابر: فلقد رأيته أكفّه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي: من سرعته ثم قال لي: (تزوجت؟ )، قلت: نعم، قال: (بكرا أم ثيبا؟ )، قلت: بل ثيّبا، قال: (أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك؟ )، قلت: إن لي أخوات، فأحببت أن أتزوج امرأة تجمعهن وتمشطهن وتقوم عليهن، فقال: (أما إنك قادم) أي: على أهلك -، فإذا قدمت فالكَيس الكَيس ومعناه الفطنة والتعقّل -.
ثم قال: (أتبيع جملك؟)، قلت: نعم. فاشتراه مني بأوقية. ثم قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبلي وقدمت بالغداة، فجئنا إلى المسجد، فوجدته على باب المسجد، قال: (آلآن قدمت؟)، قلت: نعم. قال: (فدع جملك فادخل فصل ركعتين)، فدخلت فصليت، فأمر بلاًلاًً أن يزن لي أوقية، فوزن لي بلالٌ فأرجح في الميزان، فانطلقت حتى ولّيت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لبلال: (ادع لي جابراً)، قلت: الآن يرد عليّ الجمل، ولم يكن شيء أبغض إلي منه - أي: من الجمل -، فقال لي: (خذ جملك ولك ثمنه).
وكان من فوائد هذه الغزوة إضافةً لما سبق قذف الرعب في قلوب الأعراب القساة، فلم تجترئ القبائل من غطفان أن ترفع رأسها بعد ذلك، بل استكانت حتى استسلمت، وأسلمت، حتى شارك بعضها في فتح مكة وغزوة حنين.
ومن الدروس المستفادة في هذه الغزوة، بيان العناية الربانية التي أحاطت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وعصمته من أيدي أعدائه، مصداقاً لقوله - تعالى -: {والله يعصمك من الناس} (المائدة: 67)، كما ظهرت شجاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوة يقينه بربّه، وعفوه عمّن ظلمه.
وفي موقف عباد بن بشر يتضح لنا مقدار حب الصحابة للقرآن الكريم، إذ كادت نفسه تزهق في سبيل إتمام سورة من القرآن لم يشأ أن يقطعها، والله أعلم
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد