الحج أحد الأركان الخمسة، وقد فرض في العام العاشر، وهذا ما ذهب إليه ابن القيم(1) واستدل بأدلة قوية وهو اللائق بهديه - صلى الله عليه وسلم - في عدم تأخير ما هو فرضº لأن الله - تعالى -يقول: (وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجٌّ البَيتِ مَنِ استَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلاً) [آل عمران: 97] وقد نزلت عام الوفود أواخر سنة تسع(2).
لم يحج النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة غير حجته التي كانت في العام العاشر، وعرفت هذه الحجة بحجة البلاغ، وحجة الإسلام، وحجة الوداعº لأنه - صلى الله عليه وسلم - ودع الناس فيها ولم يحج بعدها، وحجة البلاغ لأنه - صلى الله عليه وسلم - بلغ الناس شرع الله في الحج قولا وعملا، ولم يكن بقي من دعائم الإسلام وقواعده شيء إلا وقد بينه، فلما بين لهم شريعة الحج ووضحه وشرحه أنزل الله عليه بعرفة: (اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسلاَمَ دِينًا) [المائدة: 3] (3) ولما نزلت هذه الآية بكى بعض الصحابة ومنهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وكأنهم فهموا منها الإشارة إلى قرب أجل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولما قيل لسيدنا عمر: ما يبكيك؟ قال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان(4)، وكان عدد الذين مع رسول الله أكثر من مائة ألف(5).
أولا: كيف حج النبي - صلى الله عليه وسلم -؟:
عزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الحج وأعلم الناس أنه حاج، فتجهزوا -وذلك في شهر ذي القعدة سنة عشر- للخروج معه، وسمع بذلك من حول المدينة، فقدموا يريدون الحج مع الرسول، - صلى الله عليه وسلم - ووافاه في الطريق خلائق لا يحصون، فكانوا من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، مد البصر، وخرج من المدينة نهارًا بعد الظهر لخمس بقين من ذي القعدة يوم السبت، بعد أن صلى الظهر بها أربعًا(6).
وخطبهم قبل ذلك خطبة علمهم فيها الإحرام وواجباته وسننه، ثم سار وهو يلبي ويقول: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك»(7). والناس معه يزيدون وينقصون، وهو يقرهم، ولا ينكر عليهم، ولزم تلبيته ثم مضى حتى نزل بـ (العرج) ثم سار حتى أتى (الأبواء) فوادي (عسفان) في (سرف) ثم نهض إلى أن نزل بـ (ذي طوى) فبات بها ليلة الأحد، لأربع خلون من ذي الحجة، وصلى بها الصبح، ثم اغتسل من يومه، ونهض إلى مكة فدخلها نهارا من أعلاها، ثم سار، حتى دخل المسجد، وذلك ضحى(8)، فاستلم الركن(9) فرمل ثلاثا(10) ومشى أربعًا ثم نفذ إلى مقام إبراهيم(11) - عليه السلام -. فقرأ (وَإِذ جَعَلنَا البَيتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدنَا إلى إِبرَاهِيمَ وَإِسمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرٌّكَّعِ السٌّجُودِ) [البقرة: 125] فجعل المقام بينه وبين البيت، وكان يقرأ في الركعتين: (قُل هُوَ اللهُ أَحَدٌ) و (قُل يَا أَيٌّهَا الكَافِرُونَ)، ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: (إِنَّ الصَّفَا وَالمَروَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ فَمَن حَجَّ البَيتَ أَوِ اعتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 158] وبدأ بما بدأ الله بهº فبدأ بالصفا، فرقى عليه، حتى إذا رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره، وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ثم دعا بين ذلك قال مثل هذه ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة، حتى إذا انصبت(12) قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إذا صعدتا(13) مشى حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طوافه على المروة فقال: «لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة»(14).
فقال سراقة بن مالك بن جعشم: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم للأبد؟ فشبك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصابعه واحدة في الأخرى، وقال: «دخلت العمرة في الحج» مرتين «لا، بل لأبد أبد» (15) وأقام بمكة أربعة أيام: يوم الأحد، والإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، فلما كان يوم الخميس ضُحى توجه بمن معه من المسلمين إلى منى ونزل بها وصلى بها الظهر والعصر، والمغرب والعشاء والفجر، ومكث قليلا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة(16) فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام(17) كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز(18) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء، فرحلت له، فأتى بطن الوادي(19) فخطب الناس وقال: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا، ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله. فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه(20) فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح(21)، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله، وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟ » قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكثها(22) إلى الناس: «اللهم اشهد، اللهم اشهد» ثلاث مرات(23) ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا، ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات(24) وجعل جبل المشاة بين يديه(25)<
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد