الخطبة الأولى:
أما بعد: فقد شاء الحق - عز وجل - أن يشرّف شهر رمضان بأكثر من تشريف، شرفه بأعظم حدث شهدته هذه الأرض وهو نزول القرآن، وشرفه بهذه العبادة العظيمة عبادة الصيام، وشرفه بأن كان شهر انتصار المسلمين في أول منازلة حاسمة بين الإيمان والكفر.
وإنه لمن المناسب أن يتذكر المسلمون كل عام الوقائع الإسلامية الفاصلة التي صادفت يومًا من أيام هذا الشهر المبارك وهي كثيرة، كالحبل الموصول يبدأ طرفه الأول بغزوة بدر الكبرى، الغزوة التي سماها القرآن الكريم بيوم الفرقان.
في السنة الثانية بعد الهجرة رسول الله يستقبل المهاجرين بدينهم كل يوم، ويدمجهم في المجتمع الجديد، مهاجرون تركوا كل شيء وراءهم، وخرجوا يريدون وجه الله - تعالى -، وفي المقابل وعلى بعد مئات الأميال في مكة قريش تعلن بعد الهجرة حالة الحرب مع رسول الله، وتتصرف مع المسلمين المهاجرين كما تتصرف دولة محاربة.
ومضت ليالٍ, من رمضان ذلك العام فبلغ رسول الله خبر قافلة تجارية قادمة من الشام متجهة إلى مكة، يقودها أبو سفيان وفيها أموال قريش، فندب المسلمين أن يخرجوا لاعتراضها لعل الله يكتبها لهم، تعوضهم بعض ما أخذت منهم قريش عندما هاجروا من مكة، وخرج رسول الله بنفسه في ثلاثمائة وخمسة عشر رجلاً، ولم يكن معهم سوى سبعين بعيرًا وفرسين، فكان الرجلان والثلاثة يتناوبون على ركوب البعير الواحد بما فيهم رسول الله.
روى أحمد بإسناد حسن عن عبد الله بن مسعود قال: كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير، وكان أبو لبابة وعلي زميلَي رسول الله، قال: فإذا كان عُقبَة ـ يعني نوبة ـ رسول الله في المشي قالا: اركب ـ يا رسول الله ـ حتى نمشي عنك، فقال: ((ما أنتما بأقوى على المشي مني، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما)).
وبلغ أبا سفيان خروج المسلمين لملاقاة القافلة، فاستجار رجلاً اسمه ضمضَم بن عمر الغفاري، وبعثه إلى مكة يستصرخ قريشًا أن ينفروا لحماية تجارتهم، فنهضوا مسرعين، ولم يتخلف من أشرافهم سوى أبي لهب، فإنه بعث مكانه رجلاً جعل له على ذلك جُعلا، وخرجوا من ديارهم كما قال - عز وجل -: \" بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدٌّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ \" [الأنفال: 47].
ولما بلغ رسول الله خروج قريش استشار أصحابه، فتكلم المهاجرون فأحسنوا، ثم استشارهم ثانية فتكلم المهاجرون، ثم ثالثا فعلم الأنصار أن النبيّ إنما يعنيهم، فقال سعد بن معاذ وكان قد دفع إليه النبي راية الأنصار كما دفع راية المهاجرين لمصعب بن عمير وعلي بن أبي طالب، قال سعد بن معاذ: كأنك تُعرض بنا يا رسول الله، وكأنك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقًا عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم: فأمض بنا حيث شئت، وصِل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا منها ما شئت، وما أخذت منها كان أحب إلينا مما تركت، فوالله لئن سرت بنا حتى تبلغ البَرك من غمدان ـ أقصى الجزيرة ـ لنسيرن معك، ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك، وتكلم المقداد مثل ذلك، فأشرق وجه الرسول بما سمع منهم وقال: ((سيروا وأبشروا، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، وإني قد رأيت مصارع القوم)).
وسار رسول الله إلى بدر، وخفض أبو سفيان فلحق بساحل البحر، وكتب إلى قريش أن ارجعوا فإنما خرجتم لتحرِّزوا تجارتكم، فأتاهم خبره فهمّوا بالرجوع، فانبعث أشقاهم أبو جهل عمرو بن هشام فقال: والله لا نرجع حتى نقدم بدرًا، فنقيم فيها نطعم من حضرنا، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القِيَان، يعني المغنيات. لماذا يا أبا جهل؟! وتسمع بنا العرب، فلا تزال تهابنا أبدًا وتخافنا.
وسار رسول الله بإشارة من الحُباب بن المنذر إلى موقع مناسب من مياه بدر، فنزل ومشى في أرض المعركة، وجعل يشير بيده الشريفة ويقول: ((هذا مصرع فلان)) رواه مسلم، أي: هنا يخرّ قتيلاً صريعًا، فما تعدى أحد منهم موضع الإشارة النبوية.
فلما طلعت قريش، وكانوا خمسين وتسعمائة مدججين بالسلاح قال رسول الله: ((اللهم هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها، تجادل وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني))، وقام ورفع يديه واستنصر ربه وبالغ في التضرع، ورفع يديه حتى سقط رداؤه وقال: ((اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض))، فالتزمه أبو بكر من ورائه وقال: حسبك مناشدتك ربك يا رسول الله، أبشر فوالذي نفسي بيده لينجزن الله ما وعدك.
واستنصر المسلمون كلهم، وتهيئوا، فلما أصبحوا أقبلت قريش بكتائبها والتقى الجمعان، فمنح الله المسلمين أكتاف المشركين، فتناولوهم قتلاً وأسرًا، وانجلت المعركة عن نصر عظيم للمسلمين، فقُتِل من المشركين سبعون، معظمهم من صناديد قريش وأشرافهم، وعلى رأسهم أبو جهل، وأُسِر مثلُ العدد، بينما استشهد من المسلمين أربعة عشر.
وكان لنصر بدر ما بعده في تاريخ الدعوة الإسلامية ومسيرة الدولة الإسلامية، وكلٌّ التطورات التي جاءت فيما بعد مدِينةٌ لهذا اليوم الفاصل، فماذا لنا نحن من يوم بدر؟!
لقد جاء الوحي عقب المعركة، ونزل على قلب رسول الله ليعلِّم الصحابة ويربيهم، وصورُ الأحداثِ لا زالت حيةً في نفوسهم، لكن الوحي ليس لهم وحدهم، ولكنه للمسلمين في كل زمان، وبهذه التعليقات القرآنية على غزوة بدر، انتقلت من حدث تاريخي جزئي إلى تاريخي نموذجي، يشارك في إعداد الفئة المؤمنة التي تنهض بمثل ما نهضت به الجماعة المسلمة الأولى من نصرة الإسلام ونشر دعوته.
الخطبة الثانية:
أما بعد: ماذا نأخذ من بدر معشر المسلمين؟ إننا نأخذ من هذه الغزوة ما ينبغي أن نكون عليه دائمًا، وهو الاستعداد للجهاد، انظر إلى ذلك الاستعداد الذي أبداه المهاجرون والأنصار لملاقاة المشركين وإن لم يكونوا خرجوا لقتال، فالجهاد قبل أن يكون منازلاتٍ, ومعاركَ، وهو استعداد وتهيؤ دائم، والإسلام بكل تعاليمه جهاد، فالصلاة والصيام والزكاة والحج جهاد، وطلب العلم جهاد، والدعوة جهاد، والصمود أمام الفتن جهاد. ومع الجهاد تكون عزة النفس، ويكون الجد وإتقان العمل. فلم تكن غزوة بدر مقطوعة الصلة بما سبقها من تربية طويلة بمكة ثم بالمدينة المنورة، بل هو سياق واحد موصول. الجهاد ماضٍ, إلى يوم القيامة بكل هذه المعاني الواسعة له.
ونأخذ من هذه الغزوة أن الأصل هو الدعوة بالكلمة الطيبة والقدوة الحسنة وعدم المبادأة بالقتال، فبدر لم تقع إلا بعد سنوات من الدعوة، وكان البادئ بالشر هم الكفار، وكم بذل النبي لينقذهم من النار، فأبَوا عليه واختاروا محاربته، فماذا يملك لهم؟! لذلك لما انتهت المعركة أقبل حتى وقف عليهم وهم قتلى وقال: ((بئس عشيرة النبي كنتم، كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، أخرجتموني وآواني الناس)).
ونأخذ من بدر معرفة قدر صحابة رسول الله، وكيف كانت أيامهم، ولماذا لا يبلغ أحدٌ منَّا مُدَّ أحدهم ولا نصِيفَه، ولنعرف أي شرف ناله أولئك الناس عندما اختارهم الله لصحبة نبيه ونصرة دينه، وفضلهم بمعايشة عصر النزول، فتمتزج أحداث حياتهم بتاريخ الدعوة، وتبقى تلك الأحداث دروسًا للأجيال.
ونأخذ من بدر شروط النصر وأسباب الهزيمة، وأن ذلك كله يقع وفق سنن الله.
وكذلك نرى في بدر عاقبة الإخلاص والصدق، وعاقبة الكبر والرياء والشهرة.
ونأخذ من بدر أن قيمة كل مسلم بحسب بلائه في الإسلام، فقد كان يقال: فلان من المهاجرين، وفلان من الأنصار، وفلان من أهل بدر، وفلان من أهل بيعة الرضوان، فإذا استوى المسلمون في أصل الإسلام فالتفاضل بينهم بحسن بلاء كل واحد منهم، وهذا ليس خاصًا بالصحابة، بل هو عام لمن بعدهم، وإنما كان الصحابة يُظهِرون ذلك ويزنون به، ونحن نَزِنُ بموازينَ أخرى.
لقد كان بدر موضعًا في الجزيرة العربية مثل سائر واحاتها، وشاء الله - عز وجل - أن ينتقل الاسم إلى الغزوة، ليتسمى به أطفالنا وشوارعنا ومؤسساتنا ومساجدنا، وهذا طيب، لكن لا ينبغي أن ننسى أصل الاسم في الإسلام، إنها معركة فاصلة بين الحق والباطل.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد