الأنصار وبيعة العقبة الثانية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

بعد أن أنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - اللقاء المبارك مع وفد المدينة المنورة في بيعة العقبة الأولى، ورجع الوفد إلى ديارهم وأهليهم، بعث - صلى الله عليه وسلم - مصعب بن عمير سفيراً له في المدينة يعلم أهلها الإسلام، ويدعوا من لم يدخل في هذا الدين إلى الدخول فيه.

 

وكانت بعثته - صلى الله عليه وسلم - مصعباً أمراً غاية في الأهمية، إذ سرعان ما آتت دعوة مصعب - رضي الله عنها - ثمارها، فلم يمض إلا عام واحد حتى دخل أكثر أهل المدينة في الإسلام، وهنا شعر المسلمون الجدد بمعاناة إخوانهم في مكة، وهم في مدينتهم سادة ممتنعون عن الأذى والضيم، ومع ذلك يؤذى رسولهم، ويلاحق في جبال مكة وشعابها، ويهان أصحابه، فرحل إلى مكة سبعون رجلا من أهل المدينة، حتى قدموا في موسم الحج، وواعدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يلتقوا به في شعب العقبة، ولندع أحد النقباء يحدثنا عن هذه البيعة المباركة، وما وقع فيها من مواقف عظيمة، حقها أن تكتب بماء الذهب.

 

يقول كعب بن مالك - رضي الله عنه -، فيما رواه الإمام أحمد في مسنده وحسنه الشيخ الأرناؤوط: (فنمنا تلك الليلة - الليلة التي واعدوا فيها النبي، وهي الليلة الثانية من أيام التشريق - مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل، خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نتسلل مستخفين تسلل القطا - طائر - حتى اجتمعنا في الشعب - الطريق في الجبل - عند العقبة ونحن سبعون رجلا، ومعنا امرأتان من نسائهم نسيبة بنت كعب أم عمارة، و أسماء بنت عمرو بن عدي بن ثابت، قال: فاجتمعنا بالشِّعب ننتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جاءنا ومعه يومئذ عمه العباس بن عبد المطلب - وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له - فلما جلسنا كان العباس بن عبد المطلب أول متكلم، فقال: يا معشر الخزرج: إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، وهو في عزِّ من قومه، ومنعة في بلده، قال: فقلنا قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك، ولربك ما أحببت، فتكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتلا، ودعا إلى الله - عز وجل -، ورغب في الإسلام، وقال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم، وأبناءكم، فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا - جمع إزار ويكنى به عن المرأة -، فبايعنا يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنحن أهل الحروب، وأهل الحَلَقَة - السلاح - ورثناها كابراً عن كابر، فاعترض قول البراء وهو يكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو الهيثم بن التيهان حليف بني عبد الأشهل، فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال - يعني اليهود - حبالاً وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله، أن ترجع إلى قومك وتدعنا، قال: فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم، وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً منهم تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس،...وكان أول من أخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البراء بن معرور، ثم تتابع القوم - يعني على المبايعة -، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ارفعوا إلى رحالكم، قال: فقال له العباس بن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن على أهل منى غداً بأسيافنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لم أؤمر بذلك، فرجعنا فنمنا حتى أصبحنا، فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش - أي عظماؤها - حتى جاؤنا في منازلنا، فقالوا يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، والله إنه ما من العرب أحد أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينه منكم، فانبعث من هنالك من مشركي قومنا يحلفون لهم بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه وقد صدقوا لم يعلموا ما كان منا).

 

هذه هي بيعة العقبة وتلك هي أحداثها، تكاد تتفجر بأمثلة الشجاعة والبطولة، ولو ذهبنا نتأمل بعض المواقف فيها لأصابنا العجب من عظمتها وجلالتها، ولنبدأ بموقف النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكيف عرض دعوته بكلمات موجزة صافية صريحة من غير لبس أو غموض، ومن غير أن يقدم على قبولها أي عرض دنيوي، فلم يعدهم بملك أو سلطان، أو حتى مال يخفف به عنهم ضخامة الحمل الذي سيحملونه، بل ربطهم بالآخرة عندما سألوه ما لنا؟ قال: الجنة - كما في رواية ابن إسحاق -، حتى يتحقق فيهم كمال التجرد في قبول هذه الدعوة، وتحمل تبعاتها، وفهم الصحابة رضوان الله عليهم هذا الدرس جيداً، وأن في قبولهم هذه الدعوة معاداة العرب والعجم، وسخط الأحمر والأسود من الناس، وقطع علائقهم، وعلاقاتهم، ومع ذلك أقدموا - وهنا تتجلى البطولة في الثبات على المبادئ - رغم عظم الضريبة التي سيدفعونها -، فقبلوا هذه البيعة لله - عز وجل - صافية نقية، فلله درها من بيعة، ولله درهم من رجال.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply