مع الهجرة المباركة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

كان القدر يرسم معالم المستقبل المجيد..

وكان الموقف النبويّ يتجاوز حدود الزمان، وآفاق المكان المشهود..

وكان التمحيص الإيماني يبلو سرائر الصابرين تحت سياط التعذيب وإرهاب الوعيد..

وكان الجهل والكفر والطغيان في معسكر واحد، وفي أشرس صولات الباطل الذي يقوده غروره دوماً إلى حتفه الموعود …

وكانت أرجاء مكة، قد ضاقت بأحقاد الحميّة الجاهلية التي تغطي بقتامها على العقول فتفقدها الروّية، والتي تربط على القلوب الحجرية برباط الشقوة حتى لا ينفذ إليها شعاع من هدى، ولا تدركها نسمة من نسمات الإيمان الندية، التي تفك عنها أغلال القيود..

وكانت موازين الفكر المادي إن كان هناك فكر تقطع بهزيمة الروح والحق والغيب، وتدفع للمزيد من التشديد على حركة الإسلام المستضعف، وعلى أصحاب كلمة التوحيد

لكن موازين الرشاد تزن الحقائق والقضايا والمصائر بغير موازين الأوهام العاثرة، ويغير خواء المقدمات الجائرة التي لا تفضي نتائجها إلا إلى الخسران المبيد..

فهناك الحق، وفي مواجهته الباطل. وهناك الخير، وفي معاداته الشر. وهناك الهدى وفي منازلته الضلال، وهناك النور وفي مغابلته الظلام، فأي الفريقين أحق بالأمن، وأولى بالغلبة، وأقدر على الثبات، وأمضى في معركة المصير؟؟

كذلك كان موضوع الصراع، وميدان التحدي، ففي مقلب الشرك كان القرار المحتوم يقضي باستخدام كل نوازع الشر، وبكل أدواته، للإجهاز على الإسلام، وللقضاء على المسلمين.

وفي مقلب التوحيد، كان القرار المحسوم يعلن الحتمية الإيمانية التي تقوم على الحق وتعتصم به، انطلاقاً من ثبات يقينه، لا انسياقاً بتكاثر الجموع، وانقياداً لغرائز القطيع، وانبهاراً بجلبة الباطل وشغب الضلال.

 

فالاعتصام بالحق لا يضطرب ولا يرتاب، ولا يخاف ولا يهاب، ولا تقلقله سطوة الجبارين العتاة، ولا تزلزله سلاسل الأصفاد الخانقة، ولا تخلخله أرصاد الاضطهاد الفاجر، بل إنها تزيده قوة إلى قوة، واستبسالاً في مواقع الروع، وتصميماً على مضاعفة التضحيات، حتى يغدو المستضعفون نور الله الثاقب الذي يكشف الظلمات، ونار الله الموقدة التي تصهر ماران على الأفئدة، فإذا المشردون عن ديارهم، والمطاردون في مهاجرهم، هم الأكثر زاداً في صمود النفوس، والأكثر مدداً في رصيد التصدي، والأقدر عزماً على ردّ التحدي، والأوفر عطاءاً في مد لهمات الخطوب..

 

فلمن تكون العاقبة، عاقبة الفصل بين حميّة الإيمان ولمّة الشيطان، وبين كرامة الإيمان ودمامة الطغيان، وبين إشراقة النور وغسق الديجور؟

 

إن قصة الهجرة تفيض بأنبل كنوز الأمجاد التي أعلت مكارم الإنسان، وجلّت معالم الإيمان، وحملت للأزمنة بدائع الروائع التي أعلنت أمثولات التألق والتفوق، وأقصت عن مسيرة الكمالات أوهاق التدني، وأنساق العبث، ليبقي الجوهر الإنساني في لألآئه المصان، ويستمر الجوهر الإيماني في مأمنه المتعال.

 

وهكذا بدأت الهجرة، وامتدت أغصانها الوارفات إلى كل المنعطفات فإذا بالانتصارات والإنجازات والتحولات لصيقة السبب والنسب بالهجرة وبالمهاجرين، وبالخروج القسري من أجل العودة الظافرة، وبالصبر الأليم لامتشاق النصر المبين، وبالثبات الواثق الممهد للفتح المتسامح، وبضيق الغار للوصول إلى عالمية الانتشار، وكان وعي الأوائل بالغ التصور والتصوير، حين اختاروا الهجرة مفتتحاً لتاريخ إنساني جديد، فكأنهم أرادوا أن يعلنوا أنهم ولدوا بها، وبدأوا منها، وساروا معها، واستندوا إليها، وصاغو حياتهم بقيمها، وأسسوا حضارتهم على ركائزها، وأن شرف الأمم وخلودها يرتبط بصلابة موقفها، وعظمة تضحياتها، وبقدرتها على تحدي الآلام، وتخطي الأزمات، وذلك ما وعته الأجيال، وتناقلته العصور، واستطاعت من خلاله أن تهزم الهزائم، وأن تقضي على اليأس، وأن تنهض بشموخ، وأن تسترد ذاتها كلما اختلطت عليها الأمور، أو أعياها المسير.

 

وحديث الهجرة يأخذ إلى مقدماتها وأحداثها وما تلاها، وكيف كانت البوابة الكبرى لمواجهة أعظم التحديات، ومعالجة أخطر القضايا، والانتقال من مرحلة محدودة الأعباء إلى مرحلة واسعة الأرجاء، فقد اندفع سيل هائل من المشكلات، وارتفع كمّ ضخم من التبعات، وبدأت معارك المقاومة للاعتداء الخارجي المسلح والتآمر اليهودي الوقح، كما بدأت معارك البناء على كل صعيد، وتنظيم شؤون المجتمع، ووضع اللبنات الراسخات لتشييد دولة فريدة بقيم جديدة، وتأسيس حضارة إيمانية المحتوى، إنسانية المرتجى، وإذا كان النبي - عليه السلام - هو القائد والمعلم والمنظم والحاكم  والمربي والقدوة العليا في كل الشؤون، فقد كان إلى جانبه صحابته  وفي صفوفهم الأولى أولئك المهاجرون الذين تحملوا صنوف العذاب وتركوا وراءهم أموالهم وديارهم، دون أن يكون في قلوبهم مطمع في مغنم من الغنائم التي تغري الناس بالاغتراب، ودون أن يكون هدفهم إلا النجاة بدينهم والعمل على إعلاء كلمته، فقد سطعت في نفوسهم إشراقات الحق، واستعلت في عقولهم حقائق الدين، وتعالت في أهدافهم مقاصد الرضوان، وتعمقت في قناعاتهم بيّنات الهدى، وسرت في مشاعرهم ملائكية الطهارة، واستقامت في مداركهم موازين التبصر، فلم يهنوا أمام بطش الأعداء، ولم يؤخذوا بعاصفات الأهواء، ولم يخضعوا لواقع شريعته الظفر والناب، ومحكمته العسف والإرهاب، فانتصروا أولاً بصبرهم، واستعلوا ثانياً بصمودهم، وتفوقوا ثالثاً بتضحياتهم، واعتمدوا رابعاً على إيمانهم، واستندوا خامساً على وحدتهم، لأنهم علموا أن للإيمان مهراً غالياً، وأن للنجاح ثمناً باهظاً، وأن للنصر تضحيات جلّى، وأن للجنّة مقاماً محموداً لايرتقيه إلا المجاهدون، فكانت هجرتهم مثابةً لأمن الإيمان، وشهادة للفوز في الامتحان، وإطلالة على فواتح الزمان، الذي بدأ بهم مسيرته من مضامين النور لا من حركة الكون.

 

وبهذا استحق المهاجرون أن يكون لهم ذكر حسن في القرأن، وأن تتوج هجرتهم بالفتح الأكبر يوم الفتح الأعظم، حين ساروا خلف النبي - عليه السلام -، لتحرير مكة، وتطهير البيت، وهو يحني رأسه الشريف تواضعاً وخشوعاً حتى لتكاد جبهته تلامس ظهر راحلته وهو يردد قول الله (()وَقُل جَاءَ الحَقٌّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً) (الاسراء: 81).

 

فهو الحق إذن، ولا شيئ غير الحق، آمنوا به، وحددوا بتعاليمه بواعثهم وأهدافهم، ونقلوه معهم إلى المدينة، وعادوا به إلى مكة ليثبتوا معالمه، ويرفعوا أعلامه، ويحملوا أمانته إلى كل الأمم، ويصونوا حماه من أي اجتراء، ويكونوا إلى جانب نبيهم في صياغة مجتمع الإسلام، وإرساء حضارة المسلمين، وإعلاء كلمة الدين بتمثل تعاليمه، حقيقة ناصعة في النفوس، وليس تمدحاً لفظياً في الشفاه.

 

وبعد فإذا كانت الهجرة من مكة إلى المدينة هي المثل الأعلى في حركة الإيمان والثبات والتضحية، فإنها الأمل الأبقى للأمة التي ترهقها العاديات، وتحاصرها الشدائد، لتجد فيها منابت عزتها، ومسالك رفعتها، ومكامن قوتها، وركائز نهضتها، فلا يدركها يأس أو تباؤس، ولا ينالها انهزام أو استسلام، ولا يطويها عدوان أو طغيان، ولا يرهبها تهديد أو وعيد، لأنها أمة الحق، وبالحق تعلو، ولأنها أمة الإيمان وبالإيمان تنتصر، ولأنها أمة الصمود وبالصمود تستمر، ولأنها أمة الرسالة والرسالة لا تضل ولا تبلى.

 

وعسى أن تكون الغاشيات التي تغشا أمتنا في كثير من مواقفها، هي المطهر الذي ينفي كدرها، وينقّي جوهرها، ويؤكد وحدتها، ويسترد نهضتها، ويكشف عنها السوء، ويستدعي تاريخها للتأمل، ويوظف طاقاتها للمستقبل، ويجدد حياتها بمنهج دينها، وبوعي لا تطمسه التشوهات، وبثقة لا تلغيها النكبات، وبيقين لا يمسه الارتياب.

وتبقى الهجرة، منطلق حياة، ومبعث رجاء، ومشروع نهضة كاملة تنتظر موقف المهاجرين الجدد الذين يهجرون التخلف والتقاعس والعجز، ويهاجرون بصدق إلى الله..

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply