بسم الله الرحمن الرحيم
أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة بعد غزوة الخندق بقية السنة الخامسة للهجرة، وفي السنة السادسة خرج إلى بني لحيان الذين قتلوا عاصم بن ثابت ومن معه، فوجد القوم قد تفرقوا، ثم إلى ذى قَرَد لرد إغارة عيينة بن حصن على لقاحه - صلى الله عليه وسلم - (واللقاح: جمع لَقحة، وهي الناقة الحلوب)، ففر العدو بعد مناوشة لم تطل، ثم إلى بني المصطلق لما بلغه أنهم يجمعون له الجموع، فهزمهم وغنم منهم أموالا وسبايا.
ثم خرج - صلى الله عليه وسلم - في ذي القعدة من تلك السنة إلى مكة يقصد العمرة، وخرج معه من المهاجرين والأنصار ألف وخمسمائة، وساق معه الهدي ليعلم الناس أنه لم يخرج محاربا، وأمر أصحابه ألا يستصحبوا معهم من السلاح إلا السيوف مغمدة في قُرُبها، حتى لا يدخلوا المسجد الحرام بسيوف مجردة، فسار - عليه الصلاة والسلام - بهذا الجمع حتى وصلوا عسفان، وهو موضع على مرحلتين من مكة، فجاءه من أخبره أن قريشاً اتفقت على صد المسلمين عن مكة، وتجهزت للحرب، وأخرجت خالد ابن الوليد في مائتي فارس ليصدوا المسلمين عن التقدم، فسار المسلمون من طريق آخر تملك مكة من أسفلها، حتى وصلوا إلى مهبط الحديبية، وهي بئر بقرب مكة سمي الموضع باسمها، فبركت ناقته - صلى الله عليه وسلم -، فأمر أصحابه بالنزول، وهناك جاء رسول من قريش يسأِل عن سبب مجيء المسلمين، فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - بمقصده، فلما رجع إلى قريش لم يثقوا به، فأرسلوا آخر، فلما رأى الهدي وسمع التلبية رجع وقال لقريش: إن القوم جاءوا معتمرين، وما ينبغي أن يُصَدٌّوا، وما ينبغي أن تحج لخم وجذام وحمير ويمنع عن البيت ابن عبد المطلب، فلم تسمع قريش لقوله، وبعثوا آخر فرأى من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عظيم احترامهم لنبيهم ومحبتهم إياه، فرجع إلى قريش وحدثهم بما رأى وقال: إني والله ما رأيت ملكا في قومه مثل محمد في أصحابه. فتكلم القوم فيما بينهم، وقالوا: نرده عامنا ويرجع إلى قابل.
ثم أرسل رسول الله - صلى الله عيه وسلم - إليهم عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في جوار رجل من بني أمية ليعلمهم بقصده، وخرج معه عشرة من المسلمين لزيارة أقاربهم بمكة، فقالت قريش: إن محمدا لا يدخلها علينا عنوة أبدا، ثم منعوا سيدنا عثمان - رضي الله عنه- ومن معه من الرجوع، وشاع بين المسلمين أنه قد قتل، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه للبيعة على القتال، فبايعوه على ذلك، وكان ذلك تحت شجرة سميت بعد بشجرة الرضوان، وسميت هذه البيعة أيضاً بيعة الرضوان، وبعث المشركون طلائعهم فأسر المسلمون منهم اثني عشر رجلا.
ولما سمعت قريش بهذه البيعة خافوا أن تدور عليهم الدائرةº فأرسلوا أحدهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمكالمة في الصلح، وبعد أن أطلقوا سبيل سيدنا عثمان ومن معه، وأطلق المسلمون من أسروهم، اتفق معهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قواعد الصلح، وهي أربعة أمور: ترك الحرب بين الفريقين عشر سنين. وأن يرجع رسول الله والمسلمون من عامهم دون أن يدخلوا مكةº فإذا جاء العام الثاني دخلوها بدون سلاح سوى السيوف في القُرُب وأقاموا بها ثلاثة أيام بعد أن تخرج منها قريش. وأن من أتى إلى المسلمين من قريش ردوه إليهم، ومن جاء إلى قريش من المسلمين لا يلزمون برده. وأن من أحب أن يدخل في عهد المسلمين دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش دخل فيه.
وأملى النبي - صلى الله عليه وسلم - عليَّ بن أبي طالب، فكتب بذلك وثيقة، وقد رضي المسلمون بما رضي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن تألموا من بعض هذه الشروط، ثم تحلل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون من عمرتهم وعادوا إلى المدينة، وقد نزلت في هذه الحادثة سورة الفتح.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد