نماذج مشرقة (3)


  

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

كانت دعوة الإسلام دعوةً عالمية، لا تختص بالعرب، دون بقية الأمم، ولا بجزيرتهم، دون بقية الأرض، بل كانت للناس كل الناس، في الأرض كل الأرض.وانطلاقاً من هذه المسؤولية الشاملة كاتب النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ملوك الأرض، الذين لم يتمكن من الوصول إليهم بنفسه، ووجه إليهم رسائل واضحة، لا لبس فيه ولا غموض.

وكان من هؤلاء المخاطبين الإمبراطور الروماني (هرقل) الذي خرج لتوه منتصراً من صراع مرير مع الامبراطورية الفارسية، وبسط نفوذه على بلاد الشام وفلسطين. وكان إلى جانب نفوذه السياسي، يتمتع بثقافة دينية واسعة، إلى حد أنه قد بلغ درجة (أسقف)، لولا انخراطه في الحكم. وفي تلك الأثناء، ورده خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو في (إيلياء) القدس، فاهتم بالخطاب، وطفق يبحث عن أحدٍ, من العرب الطارئين على المنطقة، ليستخبرهم عن هذا النبي، فاتفق وجود أحد وجهاء قريش، قبيلة النبي - صلى الله عليه وسلم -، المقيمة في موطنه، مكة، وهو أبو سفيان بن حرب، وكان حينذاك مشركاً، معادياً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعه ونفر من أصحابه، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ودعا بترجمانه، وجرت هذه المحاورة العجيبة:

قال أبو سفيان: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟

فقال أبو سفيان: أنا أقربهم نسبة. فقال: أدنوه مني، وقربوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره. ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه. قال أبو سفيان: فو الله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه.

قال هرقل: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب.

قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت لا.

قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت لا.

قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت بل ضعفاؤهم.

قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون.

قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت لا.

قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت لا.

قال: فهل يغدر؟ قلت لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، يشير إلى صلح الحديبية، المبرم في ذلك العام بين النبي - صلى الله عليه وسلم - والمشركين. قال أبو سفيان: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة.

قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم.

قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه. قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة.

فقال هرقل للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها. وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول، فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله، لقلت: رجل يأتسي بقول قيل قبله. وسألتك: هل كان من آبائه من ملك، فذكرت أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك، قلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله. وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت أن ضعفاؤهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل. وسألتك: أيزيدون أم ينقصون، فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك: أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك: هل يغدر، فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك: بما يأمركم، فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة، والصدق، والعفاف. فإن كان ما تقول حقاً، فسيملك موضع قدميَّ هاتين. وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم. فلو أني أعلم حتى أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه!

 ثم دعا بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقرأه فإذا فيه:

 (بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى. أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلامº أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين. فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}

قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب، كثر عنده الصخب، وارتفعت الأصوات، وأخرجنا.

 لقد طرح هذا الملك، العالم، العاقل، عشرة أسئلة كاشفة، ثم حلل إجاباتها تحليلاً دقيقاً، ثم خلص إلى النتائج التالية:

1- أن محمداً رسولٌ من عند الله حقاً.

2- أنه النبي المنتظر، المبشر به في التوراة والإنجيل.

3- أن دينه سيظهر، ويملك المعمورة.

وقد كان الموقف الشخصي لهرقل واضحاً، وإيمانه الداخلي بصدق نبوة محمدٍ, - صلى الله عليه وسلم - جلياً، إلى الحد الذي يتمنى أن يغسل قدميه! وقام فعلاً باستطلاع رأي (الروم)، فقوبل بمعارضةٍ, شديدة، ورفضٍ, قاطع، فضنَّ بملكه ونفوذه، ولم يتمكن من إقناع الروم بالدخول في الإسلام. وصدقت توقعاته، فلم يكد يمض عشر سنين على هذه الحادثة، حتى تسلم أمير المؤمنين، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عمر بن الخطاب، - رضي الله عنه -، مفاتيح بيت المقدس، وملك المسلمون موضع قدمي هرقل.  

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply