من المعلوم أن المعجزة الكبرى لـمحمد - صلى الله عليه وسلم - هي القرآن الكريمº فهو الكتاب الذي كان به التحدي، وبه ثبت عجز العرب - وهم أهل الفصاحة والبلاغة - عن أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، أو بسورة واحدة من مثله، وعجز هؤلاء يثبت عجز غيرهم من باب أولىº ولهذا قال الله - سبحانه -: \" قُل لَّئِنِ اجتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنٌّ عَلَى أَن يَأتُوا بِمِثلِ هَذَا القُرآنِ لاَ يَأتُونَ بِمِثلِهِ وَلَو كَانَ بَعضُهُم لِبَعضٍ, ظَهِيرًا \" (الإسراء).
ولأن الله ختم النبوات بـمحمد- صلى الله عليه وسلم - فقد تكفَّل الله - سبحانه - بالحفاظ على هذا الكتاب المعجزº ليظل التحدي به باقيًا إلى يوم القيامة، فقال - سبحانه - في محكم كتابه: \"إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ \" (الحجر: 9).
وبقاء الكتاب يعني بقاء الرسالة والمعجزة معًا، فهما شيء واحد، على خلاف ما كانت عليه الحال مع الأنبياء، الذين سبقوا محمدًا- صلى الله عليه وسلم - حيث كانت المعجزة منفصلة عن الرسالة، ومع هذا فإن الله - عز وجل - قد جمع الفضل من أطرافه كلها، ومنحه لخاتم أنبيائه وإمامهم محمد- صلى الله عليه وسلم - فأكرمه وشرفه بأن أجرى على يديه العديد من خوارق العادات، التي تفوق بها على جميع إخوانه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
يقول الإمام الشافعي - رضي الله عنه - : ما أعطى الله نبيًّا شيئًا إلا أعطى محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ما هو أكثر منه، فقيل له: أعطى الله عيسى بن مريم إحياء الموتى، فقال الشافعي: حنين الجذع أبلغº لأن حياة الخشبة أبلغ من إحياء الموتى، ولو قيل: كان لموسى فلق البحر، عارضناه بفلق القمر، وذلك أعجبº لأنه آية سماوية، وإن سئلنا عن انفجار الماء من الحجر عارضناه بانفجار الماء من بين أصابعه - صلى الله عليه وسلم - لأن خروج الماء من الحجر معتاد، أما خروجه من اللحم والدم فأعجب، وإن سئلنا عن تسخير الرياح لسليمان عارضناه بالمعراج.
وهذه الخوارق الكثيرة، التي أجراها الله على يد رسوله - صلى الله عليه وسلم - منها ما وقع به التحدي بينه وبين المشركينº كانشقاق القمر الذي سجله القرآن الكريم ودونته السنة الصحيحة، ومنها ما أجراه الله على يد رسوله تكريمًا له أو تثبيتًا لفؤاده أو تجديدًا لعزيمته أو تسريةً عنه وتسليةً له، ومن ذلك النوع رحلة الإسراء والمعراج برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الحرام بمكة المكرمة إلى المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، ثم العروج به - صلى الله عليه وسلم - من تلك البقعة المباركة في أرض فلسطين إلى السماوات العُلى وما فوقهنº حيث انتهى إلى سدرة المنتهى التي ينتهي إليها كل صاعد مما هو تحتها من كل أمر، وينتهي عندها كل ما هو آتٍ, من فوقها من كل أمر، وهناك رأى رسول الله من آيات ربه الكبرى، ثم عاد إلى حيث يبيت، كل ذلك في برهة من الليل.
وقد صرح القرآن الكريم بالهدف الرئيسي لهذه الرحلة المباركة، كما بيَّن أن هذا الهدف تحقق على أتم ما يكون، يقول الله - تعالى -: \" سُبحَانَ الَّذِي أَسرَى بِعَبدِهِ لَيلاً مِّنَ المَسجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسجِدِ الأقصَى الَّذِي بَارَكنَا حَولَهُ لِنُرِيَهُ مِن آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير \" (الإسراء: 1)، ويقول - عز وجل -: \"وَلَقَد رَآهُ نَزلَةً أخرَى* عِندَ سِدرَةِ المُنتَهَى* عِندَهَا جَنَّةُ المَأوَى* إِذ يَغشَى السِّدرَةَ مَا يَغشَى* مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى* لَقَد رَأَى مِن آيَاتِ رَبِّهِ الكُبرَى\" (النجم: 13- 18).
ففي الآية الأولى تصريح بأن الله إنما أسرى بحبيبه ليريه بعض آياته، أما آيات سورة النجم التي تشير إلى المعراج، فإنها تؤكد أن الحبيب المصطفى قد رأى بالفعل بعض الآيات الكبرى.
وإذا كان الله - تبارك وتعالى - في آية الإسراء قد وصف محمدًا- صلى الله عليه وسلم - بوصف العبد مع أن المقام مقام تكريم وتشريف، فإن ذلك يُعد دليلاً حاسمًا على أن الإسراء والمعراج كانا بالروح والجسد، وفيه أيضًا التفريق بين مقام الألوهية ومقام العبودية، وفيه كذلك أن العبودية لله هي أرقى درجات الكمال الإنساني، وقد قال العلماء: لو كان للنبي- صلى الله عليه وسلم - اسم أشرف منه لسماه الله به في تلك الحالة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد