أراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إرهاب الروم، وإعادة الثقة إلى قلوب العرب الضاربين على الحدود، وخاصة بعد حادثة قتل الروم ل فروة بن عمر الجذامى بعد إسلامه، وقد كان والياً من قبل الروم على معان وما حولها من أرض الشام.
فما إن رجع - صلى الله عليه وسلم - من حجة الوداع آخر ذي الحجة حتى جهز جيشاً في شهر المحرم من أجل غزو الروم في الشام، واختار لإمرة هذا الجيش مولاه أسامة بن زيد بن حارثة، وكان وقتئذ ابن ثماني عشرة سنة، وأمره أن يوطيء الخيل تخوم البلقاء والداروم إلى الأردن من أرض فلسطين ومشارف الشام، فتجهز الناس، وحشد معه المهاجرين والأنصار.
ثم استبطأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس في بعث أسامة - وهو في مرض موته-، فخرج غاضباً عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر، وكان المنافقون قد قالوا في إمارة أسامة: أمّر غلاماً حدثاً على جلة المهاجرين والأنصار، فحمد الله وأثنى عليه؟ ثم قال: (إن تطعنوا في إمارته، يريد أسامة بن زيد، فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله، وأيم الله إن كان لخليقاً لها، وأيم الله إن كان لأحب الناس إلي، وأيم الله إن هذا لها لخليق، يريد أسامة بن زيد، وأيم الله إن كان لأحبهم إلي من بعده، فأوصيكم به، فإنه من صالحيكم) متفق عليه.
وعسكر أسامة بالجرف - موضع قرب المدينة - وتتابع إليه الناس، ينتظمون في جيشه، حتى بلغ العدد ثلاثة آلاف مجاهد، إلا أن الأخبار المقلقة عن مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكرهتهم على التريث وعدم التحرك قبل الاطمئنان عليه.
وبعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أجمع المهاجرون والأنصار على بيعة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، وكان من أول ما اعتمده إنفاذ بعث أسامة، ولم يؤثر في قراره ارتداد العرب، وظهور النفاق، وما أصاب المسلمين حتى صاروا كالغنم في الليلة الممطرة، لقلتهم، وكثرة عدوهم، وإظلام الجو بفقد نبيهم، بل قال مقولته المشهورة: والذي لا إله غيره لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله ما رددت جيشاً وجهه رسول الله، ولا حللت لواءً عقده رسول الله.
ولما قال بعض الأنصار لعمر: قل له فليؤمِّر علينا غير أسامة، فذكر له عمر ذلك، أخذ بلحيته وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب! أؤمر غير أمير رسول الله! ثم نهض بنفسه إلى الجرف، فاستعرض جيش أسامة وأمرهم بالمسير وسار معهم ماشياً وأسامة راكباً، وعبد الرحمن بن عوف يقود راحلة الصديق، فقال أسامة: يا خليفة رسول الله إما أن تركب وإما أن أنزل، فقال: والله لستَ بنازل ولستُ براكب، ثم استطلق الصديق من أسامة عمر بن الخطاب وكان مكتتباً في جيشه فأطلقه له، فلهذا كان عمر لا يلقى أسامة بعد ذلك إلا قال: السلام عليك أيها الأمير.
وكان من وصايا أبو بكر - رضي الله عنه - للجيش: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الطفل، ولا الشيخ، ولا المرأة، ولا تغرقوا نخلا، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة، ولا تذبحوا شاة، ولا بقرة، ولا بعيرا، إلا للأكل، وإذا مررتم بقوم فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وإذا لقيتم أقواماً فحصوا أواسط رؤسهم وتركوا حولها فتل العصاب، فاضربوا بالسيف ما فحصوا عنه، فإذا قرب عليكم الطعام فاذكروا اسم الله عليه وكلوا، ترفعوا باسم الله، يا أسامة اصنع ما أمرك به نبي الله ببلاد قضاعة، ولا تقصر في شيء من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ودعه من الجرف ورجع.
وسار أسامة بجيشه، فجعل لا يمر بقبيلة يريدون الارتداد إلا قالوا لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم، ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم، فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم ورجعوا لأربعين يوماً وقيل لسبعين سالمين غانمين، وثبّت الله الناس على الإسلام.
ومما يستفاد من هذا الحدث عدة أمور:
أولاً- علو همة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحرصه على الجهاد في سبيل الله، وبث الأمن خاصة على حدود الدولة الإسلامية.
ثانياً- اختيار الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحب الناس إليه للمهام الصعبة، وعدم الاكتراث بحداثة السن مع وجود الكفاءة، فكبر السن لا يهب للأغبياء عقلاً، والصغر لا ينقص الأتقياء فضلاً.
فما الحداثة عن حلم بمانعة قد يوجد الحلم في الشبان والشيب
ثالثاً- سرعة معالجة الأمور وعدم التأخر في بيان ما يُحتاج إليه، ويظهر ذلك في تصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - عند سماعه كلاماً حول إمرة أسامة، وصعوده المنبر وبيانه أهلية أسامة وأنه من الصالحين.
رابعاً- عظم محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في قلوب أصحابه، وتريثهم في التحرك عند اشتداد مرضه.
خامساً- حكمة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - في إنفاذ جيش أسامة مع صعوبة الظروف.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد