الأستاذ الدكتور عمر التدمري يضيء عتمة التاريخ المنسي


  

بسم الله الرحمن الرحيم

إذا رأيته في الشارع وجدته ساهماً في الآثار يتتبع بالتاريخ يستنطق كوامنه وإن حل في مجتمع يحل معه صمت التحفز والتفكر وإن تكلم فأنت تستمع إلى وقائع التاريخ تتحدث إليك بوقار وسكينة ...

هو معلم من معالم طرابلس ولعله أهم مؤرخ ملتزم في هذا البلد خلال هذا القرن وليست معاناته التي يشرحها إلا معاناة كل عالم في هذا الشرق المسكين.

وقد زرناه في منزله القريب من المسجد المنصوري الكبير الذي آثر إلا أن يكون قريباً من أسواق طرابلس القديمة وآثارها كي لا يبتعد عن خبزه اليومي في التفكر والتمعن والتدقيق بآثار مدينته العريقة طرابلس.

عند دخولك إلى داره تلقاه مختزلاً التاريخ... تاريخ مدينة وأمة بأكملها... باحثاً في الكتب والمخطوطات القديمة عن شعاع نور في عتمة التاريخ المنسي تاريخ مدينته طرابلس.

نعم إنه بحق مؤرخ الفيحاء أ ـ د. عمر عبد السلام تدمري حيث يبحر بنا لنغوص معه في أعماق علاقته القديمة المتجددة مع التاريخ كيف بدأ وإلى أين يمضي...

يمكن تصوير هذه العلاقة في أسواق وشوارع وأزقة مدينة طرابلس، وكان عمري لا يتجاوز الخامسة عشر، فكنت أقف أمام كل معلم من المعالم أتأمله، حتى المباني التي كانت لا تتجاوز السبعة طبقات كنت أحصيها وأحصي المقاهي والمصارف ودور السينما، والجوامع والمدارس والكنائس وسبل المياه، وغير ذلك من الأماكن التي كانت تضاء بالإضاءات الكهربائية الملونة، متمنياً في الوقت نفسه أن تتطور مدينتنا إلى ما هو أكبر وأحسن لتلحق بكبريات المدن في العالم.

 

كنت أجمع هذه المشاهدات في دفتر سميته (دفتر طرابلس) أعود إليه من حين لآخر لأضيف إليه كل جديد وأحذف ما أزيل أو انهدم، ولم أكن أدري أن هذه المعلومات المتواضعة هي نواة اختمرتها الذاكرة لتؤتي أكلها في سنوات لاحقة لكتابة تاريخ هذه المدينة من خلال العودة إلى المصادر التاريخية ما بين مخطوط ومطبوع وصور قديمة وكتب أجنبية وعربية، وانفسح المجال عندها فقصدت القاهرة للدراسة الجامعية فكان من حسن الصدف أن افتتح في جامعة الأزهر قسم التاريخ قبل سنة واحدة من سفري فالتحقت بالسنة الأولى في هذا القسم دون أي تردد وحصلت منه على درجة الإجازة العالية ثم الماجستير والدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى، وكنت أثناء دراستي الجامعية أضع نصب عيني كتابة دراسات موثقة عن طرابلس فكانت رسالتي للماجستير عن الحياة الثقافية في المدينة خلال العصور الوسطى، ثم كانت رسالة الدكتوراه عن تاريخ طرابلس السياسي والحضاري منذ الفتح الإسلامي حتى سقوط دولة المماليك، وقبل حصولي على درجة الدكتوراه كنت أتشوق إلى نشر عدة أبحاث وكتب عن مدينتي، حيث وجدت في نفسي القدرة على تعريف أبناء بلدي على تاريخهم مكتوباً بعد أن كنت أسمع قسماً من تاريخ طرابلس عن طريق شفاه الأهل والمعارف والناس دون توثيق ودون سند علمي، ومن هنا بدأت بنشر عدة مقالات وأبحاث في صحف طرابلس مثل (جريدة الإنشاء صوت البلاد ثم جريدة الانتقاد والإنشاء) وغيرها من الصحف، ثم أدخلت بعض التعديلات على رسالة الماجستير وأصدرتها في كتاب بعنوان (الحياة الثقافية في بلاد الشام خلال العصور الوسطى).

 

وقد قمت بطبعه على نفقتي الخاصة، ونشر عام 1973. ولم تمض بضعة أشهر على صدوره حتى علمت أن عدة نسخٍ, منه وضعت في مكتبة الكونغرس في واشنطن وفي عدة مكتبات في الجامعات الأوروبية، وفيما كنت أعمل في \"دائرة الأوقاف الإسلامية بطرابلس\"، كنت أقف على مدى غياب المعلومات التاريخية عن المؤسسات الدينية التابعة لهذه الدائرة وخاصة الجوامع والمدارس والزوايا والتكايا، حيث يجهل القيمون على هذه الأماكن تواريخ بنائها وأسماء أصحابها المؤسسين وما مر عليها من أحداثٍ, ووقائع ومن تعاقب عليها من علماء وخطباء وأئمة ومدرسين ومؤذنين ومؤقتين، ومن كتب عنها من الرحالة والمؤرخين من المسلمين والأجانب وغير ذلك من الوصف الجمالي والفني الذي تتمتع به العمارة الإسلامية في عصر المماليك ولهذا وضعت كتابي الثاني \"تاريخ وآثار مساجد ومدارس طرابلس في عصر المماليك وقدمته مخطوطا لمفتي طرابلس آنذاك سماحة الشيخ نديم الجسر - رحمه الله - ليطلع عليه قبل أن أعمد إلى إصداره فمضى أسبوع ثم هتف لي بأن أزوره في منزله ليقرأ ما كتبه في مقدمة الكتاب، وأبدى إعجابه وتقديره للمعلومات التي تضمنها الكتاب، والتي صرح بأنه يجهل الكثير منها رغم أنه مفتي المدينة. وصدر الكتاب على نفقتي الخاصة أيضاً وكان مباركاً حيث نفذت. جميع نسخه بعد ستة أشهر من صدوره وهذا الأمر شجعني لأن أصدر رسالتي الدكتوراه في كتاب بعنوان \"تاريخ طرابلس السياسي والحضاري عبر العصور\" فصدر الجزء الأول منه على نفقتي الخاصة ثم بعد سنتين صدر الجزء الثاني في بيروت ومنذ ذلك الوقت أي 1980 بدأ التعامل مع دور النشر التي أصدرت لي عشرات الكتب بين تأليفٍ, وتحقيق وعن سر علاقته الخاصة وهيامه بمدينته الفيحاء طرابلس الشام، فيقول مؤرخنا الدكتور تدمري:

 

الاهتمام الخاص في مدينة طرابلس مرتبط بانتمائي لهذه المدينة ولا أبالغ إذا قلت أنني في السنة الأولى لدخولي الجامعة في مصر كنت أحلم بأن يكون موضوع رسائلي الجامعية عن طرابلس خصوصاً بعدما وجدت أن أستاذاً مصرياً وضع كتاباً عن مدينتي وهو ليس من أهلها فكان هذا دفعاً قوياً لأن أصمم على البحث والتعمق في تاريخ طرابلس والإتيان بمعلومات لم يأت عليها الأستاذ المصري وهو الدكتور السيد عبد العزيز سالم.

 

ولهذا كنت أقتطع أوقاتاً طويلة للتردد على دار الكتب المصرية لمطالعة المصادر التاريخية القديمة وقراءة المخطوطات النادرة في وكر أحياء التراث الملحق بدار الكتب وأجالس كبار المؤرخين والمحققين المصريين حتى جمعت كما كبيراً من الكتب ومن النصوص التي نسختها وصورتها حتى أصبح لدي جمع كبير من المعلومات الجديدة والقديمة التي تزيد وتصحح ما كتبه المؤرخون من قبلي.

قراءة الدكتور تدمري لواقع أمته من عينه كمؤرخ، لا تعدو كونها حسرة وحرقة على مصير أمة تتخبط في دياجير الاستعمار القديم الجديد.

 إن الواقع الذي تحياه الأمة في وقتها الحاضر هو امتداد لتاريخها الطويل وصراعها مع خصومها التاريخيين الذين اشتبكت معهم منذ انتشار الدعوة الإسلامية.

فبعد فتوحات المسلمين خارج جزيرة العرب وخاصة في بلاد الشام ومصر والعراق اصطدم المسلمون بقوتين عالميتين في ذلك الوقت هما الإمبراطورية البيزنطية والفارسية، وكان البيزنطيون يحتلون أغلب السواحل الشرقية والجنوبية في البحر المتوسط ويستغلون خيرات هذه البلاد مستعمرين أهلها فارضين عليهم الضرائب الباهظة مسخرينهم لمصالحهم ولهذا كانت حركة الفتوحات الإسلامية تلقى ترحيباً وتأييداً من السكان المحليين في هذه المناطق للتخلص من حكم الأجنبي، وهناك نصوصاً كثيرة في المصادر القديمة تؤيد ذلك، حيث رحب الأقباط بعمرو بن العاص وجنده من المسلمين حتى فتحوا مصر، وعملت الدولة البيزنطية طوال عدة قرون على استعادة ما خسرته في المنطقة وقاد أباطرقتها عدة حملاتٍ, عسكرية إلى بلاد الشام بحجة الوصول إلى بيت المقدس وتأمين طرق الحجاج المسيحيين، وهي الذريعة نفسها التي استخدمها الفرنجة الصليبيين عندما قاموا بحملاتهم الصليبية المتتابعة على بلاد الشام والجزيرة الفراتية وسواحل مصر وشمال أفريقيا، وكانت كتابات الفرنج ممن رافقوا تلك الحملات وأكثرهم كانوا من الرهبان والقساوسة تنضح بالتعصب والأحقاد التي تحض على قتل وذبح الكفار ويقصدون المسلمين، ولجأوا إلى إبراز القدرة القتالية عند المسلمين ليضعوا في الأذهان أنهم تغلبوا على هذه القوة بفضل إيمانهم ودعوة الرب لهم للحكم في هذه البلاد ومن جهة أخرى واجهة الأمة حظراً داهماً المتمثل بالمغول الذين اكتسحوا ودخلوا بغداد وأسقطوا الخلافة العباسية سنة 635 هـ الموافق 1258 م، وأرادوا الاستيلاء على بلاد الشام ومصر والزحف إلى شمال أفريقيا لكنهم هزموا في عين جالوت على يد المظفر قطز. ثم كانت هجمات التتار التي (توغلت) توالت لأكثر من قرن على المنطقة نفسها. ومما يؤسف له أن الأوضاع في بعض المناطق الإسلامية كان يعتورها الوهن والخلافات المذهبية وقت ذاك مما يمكن الأعداء من اختراق صفوف المسلمين في عدة مواضع ومواقع وكانت الإرادة الإلهية تهيئ لهذه الأمة بين حين وآخر قيادة رشيدة تتمكن للتصدي لهذه الهجمات وتمثل ذلك بالعماد زنكي وابنه نور الدين والمظفر قطز والظاهر بيبرس ومن مثلهم صلاح الدين الأيوبي ثم المنصور قلاوون وابنه الأشرف خليل, وأخوه السلطان الناصر محمد, ثم الأشرف برسباي الذي تمكن من فتح جزيرة قبرص وأصبحت تابعة لدولة المماليك. ولا ننسى الدور الجهادي الذي أداه المماليك في وجه الفرنج الصليبيين حيث تحقق طردهم من بلاد المسلمين على أيديهم وهم الذين حطموا الزحف المغولي ومن ثم التقدم التتاري. وكان الغرب يعمل جاهداً على ضرب هذه الأمة. فقام بحركة الكشوف الجغرافية ليلتف حول سواحل أفريقيا بعيداً عن نفوذ دولة المماليك ليصل إلى بلاد الشرق الأقصى ومن ثم البلاد الجديدة حيث اكتشفوا أميركا واستراليا ونيوزلندا وجرى إتباع السياسة نفسها مع السلطنة العثمانية حيث تحالف الغرب الأوروبي ضد السلطنة حتى فرضوا عليها سياسة الامتيازات الأجنبية داخل أراضيها وممتلكاتها، وبذلك خلق الغرب الأوروبي عملاء له سهلوا مهمته في التغلغل الثقافي والتجاري والسياسي حتى وصلت الدولة العثمانية إلى ما عرف بالرجل المريض ووصل الأمر إلى أن تمكن الغرب من إبعاد العرب بعض عملائهم للسلطنة تحت خديعة منحهم الاستقلال عن السلطنة العثمانية ووقعوا في فك المؤامرة التي قسمت المنطقة العربية في اتفاقية سايكس بيكو الفرنسية البريطانية وخضعت الأمة الغربية للاستعمار الأوروبي بشكل مباشر والآن لم يمضي عليها سوى سنوات معدودة من التحرير من الاستعمار المباشر ولكنها بقيت مقيدة باتفاقيات سياسية واقتصادية جعلتها مكبلة، وأنشأت كيانات ضعيفة وصغيرة لا تستطيع المحافظة على وجودها وسيادتها دون المساعدة من مستعمر الذي اصطنعها، وهذا ما نراه الآن على مسرح الأحداث حيث الوجود الأمريكي المباشر في منطقة الخليج العربي.

 

وعند سؤاله عن رأيه بالمؤرخ وهل يستطيع أن يكتب ويؤرخ بعزلٍ, عن جميع المؤثرات المحيطة به بشكلٍ, موضوعي، أجابنا قائلاً:

 

إن التحرر من كل العواطف القومية والوطنية والإقليمية وحتى المحلية لا يمكن الأخذ به بشكل مطلق لأن المؤرخ الآخر هو عضو مشارك في بيئته وأمته ووطنه وبلده ولكن أولاً المعيب أن يشوه التاريخ ويزيفه ويأتي بمعلومات غير صادقة وغير موثقة فالمؤرخون الأوائل في الإسلام كانوا محدثين ولهذا كتبوا التاريخ بنفس المحدثين عن طريق السند الصحيح حيث تحرروا الصدق والأمانة في تدوين الحوادث التاريخية، ويفترض في كل مؤرخ أن يكون صادقاً في عرض القضايا التي يتطرق إليها مستنداً إلى المصادر التي تدعم مقولته ومن هذا الباب وجدت أن المؤلفات التي وضعت عن تاريخ لبنان بشكلٍ, عام تحاول أن تبرز تاريخه القديم ثم تاريخه في عهد الأمير فخر الدين المعني والأمير بشير الشهابي وفي عهد المتصرفية وعن جبل لبنان بشكلٍ, خاص. وتهمل تاريخ هذا البلد في الحقبة الإسلامية الطويلة، فلا يتعرض لها إلا انحيازاً لعهد الحكم الفرنجي أيام الصليبيين في هذه المنطقة، فلا يجد القارئ تاريخ الأمويين أو العباسيين أو المماليك في لبنان وإذا وجد ذلك يراه من وجهة نظر مشوهة ومعاكسة لهذا كان لا بد من الانتباه لهذه الناحية، والعمل على إحياء تاريخ المسلمين في لبنان الذي لا ينفصل عن تاريخ منطقته وأمته.

 

وهل يعتقد أن عمله في إطار التاريخ وتبيين ما أغفل وأهمل من آثار مدينته وجد صدى لدى القائمين والمسئولين عن المدينة، كان رأيه …

 

أعتقد أن ما لقيناه ونشرناه عن الأهمية التاريخية والحضارية والجغرافية لمدينة طرابلس لامس بعض أفكار الشباب المثقف الواعي والغيور على بلده، وفي المقابل فإن السياسيين والمسئولين أخذوا بما يشبه الشعارات التي يطلقونها من حين لآخر حول دور المدينة التاريخي وأسواقها الأثرية من باب التفاخر، ولكن هذا الكلام لم يحقق شيئاً على ارض الواقع، والذي يبدو لكل متابع في طرابلس أن الشأن العام في قضايا المدينة الحياتية ليس ضمن أولويات رجال السياسة بقدر اهتمامهم بمصالحهم الشخصية، فبإمكان أي مسئول سياسي أن يتبنى بنفسه إنقاذ ولو معلم أثري بسيط إما على نفقته الخاصة أو على نفقة المؤسسات التابعة له. ولكن ما يؤسف أننا نتغنى بتراث مدينتنا وتراث الأجداد ولا نقدم شيئاً من أجل الحفاظ على هذا التراث.

 

وفي ختام لقاءنا، طلبنا من الدكتور تدمري إسداء كلمة أخيرة لأبناء مدينته، فتوجه إليهم قائلاً:

أتوجه نحو أبناء المدينة بقراءة تاريخ مدينتهم أولاً ليتركز في أذهانهم حب بلدهم والأرض التي نشأوا وعاشوا فيها، وهذا يمثل أول حلقة في الاهتمام بآثار المدينة وضرورة العناية بها والحفاظ عليها وإظهار جماليتها بإزالة كل ما يحيط بها من شوائب ومناظر منفرة، فالمواطن الطرابلسي مطلوب منه أن يرعى بنفسه أي معلمٍ, أثري قريب منه عبر نظافة محيطه ومنع الاعتداء على هذا المبنى أو ذاك من أبناء الحي من الأطفال أو الأولاد الذين يشوهون جدرانه إذا كان عليها كتاباتٍ, ونقوش، (ـ) بالإضافة من الامتناع عن وضع الملصقات على الأماكن الأثرية وإزالة الحشائش التي تنبت فيها، فهذا ما يتوجب على الفرد العادي، ثم تأتي رسالة المدرسة في توعية النشئ ونحو أهمية المدينة والقيام بزيارات دورية إلى الأماكن الأثرية وبذلك تنمو روح التعاطف معها وتصبح جزء من اهتماماته في مرحلة الشباب وعندما يتولى المسؤولية.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply