الطبقة الخامسة من الصحابة ( 1 )في كتاب الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد


  

بسم الله الرحمن الرحيم

 إن الغالبية العظمى من مصادرنا التاريخية من أمثال، مغازي ابن إسحاق، ومغازي الواقدي وطبقات ابن سعد، وأنساب الأشراف، وفتوح البلدان، وتاريخ الطبري، وتاريخ بغداد، وتاريخ دمشق، قد دونت على منهج الجمع والتقميش، لا على منهج التحديث والتفتيش، على حد قول الناقد البارع يحيى بن معين: إذا كتبت فقمش وإذا حدثت ففتش [1].

 فلا يستغرب الباحث الناقد وجود مجموعات من النصوص والأخبار الدخيلة والموضوعة في هذه المصادر وأمثالها، مما دون على هذا المنهجº لأنه قد قام على اختراع ونشر وإذاعة هذه النصوص الباطلة جيش كثيف من أصحاب الأهواء والحاقدين على دين الإسلام وأهله، وأصحاب الاتجاهات البدعية تشويهاً لتاريخنا وتأييداً لأهوائهم ونحلهم الباطلة.

 وهذه النصوص والأخبار الموضوعة هي إحدى الوسائل التي استخدمها المستشرقون في تشويه تاريخنا الإسلامي، كما أننا نجد صداها - مع الأسف - في بعض الكتابات التاريخية المعاصرة.

 ولذا فإن الأمر يتطلب من الباحثين صرف الهمم إلى تحقيق هذه المصادر والعناية بها، وتمييز صحيحها من سقيمها على مثال ما تم في ميدان السنة النبوية، حتى تعرف النصوص الباطلة، ويكشف ريفها ويصحح ما بني عليها من أحكام ونتائج، وذلك على ضوء القاعدة الذهبية التي قررها علماؤنا: »إن كنت ناقلاً فالصحة، وإن كنت مدعياً فالبرهان والدليل«.

 ومن المعلوم أن مجرد وجود الخبر في كتاب أو مصدر دون على منهج الجمع والتقميش لا يجعله صحيحاً، ومن ثم فلا يعفى من يستدل به من المسؤولية والتبعة ما لم يتأكد الباحث من صحته أو يقف على ما يؤيده.

 وكتاب الطبقات الكبير لمحمد بن سعد البصري المتوفى سنة 230 هـ - والمشهور بكاتب الواقدي - يعتبر من أوسع المصادر وأقدمها في تاريخ الصحابة، وصدر الإسلام، وفي هذه المقالة نعرض لدراسة الطبقة الخامسة من الصحابة في هذا الكتاب [2] وذلك في النقاط التالية:  - أهمية هذا القسم من كتاب الطبقات.

 - منهجه في عرض المادة العلمية.

 - دراسة تحليلية لهده الطبقة.

أهمية هذا القسم من كتاب الطبقات:  يحتوي هذا القسم على تراجم صغار الصحابة - رضي الله عنهم -، ومعرفة هذه الطبقة من الصحابة مهمة في علم الحديث، حتى يعرف اتصال الرواية أو إرسالهاº لأن بعض هؤلاء الصحابة ليس لهم سماع ورواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما لهم رؤية وإدراك، وبعضهم لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا القليل، فتكون أحاديثهم التي لم يسمعوها من النبي - صلى الله عليه وسلم - من باب مرسل الصحابي الذي لم يسمعه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، وإنما سمعه من صحابي آخر، وبعض هؤلاء ينازع في صحبته، وابن سعد يثبتها، وهذه فائدة.

 كما اشتملت هذه الطبقة على تراجم وأخبار مجموعة من الشخصيات المهمة والمؤثرة في الحياة العلمية والفكرية، والحياة السياسية والاجتماعية، فابن عباس، والحسن، والحسين، وعبد الله بن الزبير بن العوام، من الشخصيات المشهورة في التاريخ الإسلامي، والمؤثرة في مجرى الأحداث، وقد تزعموا قيادة المجتمع في عصرهم، وشاركوا في إدارة الدولة الإسلامية، وفي الجهاد، وفي الأحداث الداخلية، والقضايا العامة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى جمع شمل الأمة واتحادها، كما حصل على يد الحسن بن علي.

كما قاموا بالمعارضة لما رأوه خروجاً عن القاعدة الإسلامية وترك الشورى في الولاية العظمى، كما فعل الحسين بن عليّ وابن الزبير من رفضهما البيعة ليزيد، ثم خرج الحسين إلى العراق، فكانت المأساة العظمى بقتله، واعتصم ابن الزبير بمكة رافضاً البيعة، حتى إذا مات يزيد دعا إلى نفسه، فبويع بالخلافة في معظم الأقاليم الإسلامية، ولكن بني أمية ومن شايعهم لم يبايعوا له، بل عقدوا بيعتهم لمروان، ثم لابنه عبد الملك، وجرت أمور عظيمة، حتى حوصرت مكة، وضربت الكعبة بالمنجنيق، وقتل ابن الزبير مظلوماً في حرم الله.

 وهذه الأحداث وقع في عرضها من الإخباريين والمؤرخين قديماً وحديثاً خلط وتشويه، يحتاج إلى تحقيق وتحرير، وابن سعد بما عرض من المعلومات والأخبار المسندة يساعد على إجلاء الصورة وتبين الحقيقة، والتمكن من نقد المرويات على ضوء أسانيدها، وقد تحقق لنا هذا من خلال المنهج العلمي الذي سلكناه في تحقيق نصوص هذه الطبقة، وقد وجدنا أن ابن سعد ينفرد بذكر نصوص لا توجد عند غيره، سواء في باب الأخبار والوقائع، أو في باب الآثار عن الصحابة - رضي الله عنهم - من الأقوال والأفعال، وبعض هذه النصوص بأسانيد صحيحة، وبعضها بأسانيد يستفاد منها في الشواهد والمتابعات لنصوص أخرى، فترفع درجتها، وبعضها بأسانيد ضعيفة جداً.

 كما أن في الأحاديث والآثار التي أوردها في تراجم أهل هذه الطبقة والبالغة: خمسة عشر وسبعمائة سنداً، يستفيد منها أهل العلم في زيادة الطرق وتقويتها لما هو مروي عند غير ابن سعد.

 وفي ترجمة ابن عباس أورد نصوصاً غاية في الأهمية، توضح المنهج الذي ينبغي أن يسلك في معاملة المخالفين، وكيفية محاجتهم، وبماذا يحاجون؟ فقد أرسله عليّ بن أبي طالب إلى الخوارج الذين أنكروا التحكيم، وخرجوا على عليّ - رضي الله عنه - فقال له عليّ: اذهب إليهم، وخاصمهم، وادعهم إلى الكتاب والسنة، ولا تحاجهم بالقرآنº فإنه ذو وجوه.

 وفي النص الثاني: القرآن حمال ذو وجوه، تقول، ويقولون، ولكن حاجهم بالسننº فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً، فخرج ابن عباس إليهم، فحاجهم بالسنن فلم تبق بأيديهم حجة [3].

 فبيان الحق وإزالة الشبهة أول ما ينبغي أن يبدأ به مع المخالف، ثم إن المحاجة والمناظرة في المسألة موضوع الخلاف لا بد أن تكون على منهج واضح صحيح، وبحجة بينة قاطعة للنزاع، ولذا قال عليّ: القرآن ذو وجوه، تقول، ويقولون، أي في تأويل الآيات، ولكن السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تحدد الوجه المراد من الآية، وعندئذ لا مجال للاجتهاد في تأويل المراد بالآية مع وجود النص من النبي - صلى الله عليه وسلم -.

 وقد أورد نصوصاً توضح موقف بعض الصحابة، مثل: ابن عباس، وابن عمر، من الأحداث التي جرت في وقتهم، مثل: بيعة يزيد، وخروج الحسين، وبيعة ابن الزبير، فقد بايع ابن عمر وابن عباس ليزيد بن معاوية، ونصحاً من لم يبايع بالبيعة والدخول فيما دخل فيه عامة المسلمين، مع أنه يوجد في الأمة من هو أفضل من يزيد وأولى بالأمر منه، ولكن لا يتوصل إلى ذلك إلا بارتكاب مفاسد أعظم من المصالح التي تتحقق بتولية الأولى والأفضل، وقد نظرا - رحمهما الله - إلى الأمر نظرة شمولية، فاختارا أخف الضررين جلباً لأكبر المصلحتين، وهذا هو منهج الاعتدال الإسلامي في التعامل مع مثل هذه الأحداث، وقد التزما بهذه البيعة، ولم يخلعا يزيداً عندما خلعه أهل المدينة، ولما دعاهما ابن الزبير إلى البيعة له بعد موت يزيد قالا له: أنت في زمن فرقة وليس عندنا خلاف، ولكن ننظر حتى يتم الأمر وتأتسق لك البلاد، كما أنهما لم يبايعا لعبد الملك الذي دعا إلى نفسه في الشام، ولا لمروان قبله، فتركا الأمر حتى يجتمع الناس على واحد، وهكذا ينبغي أن يكون التعامل مع مثل هذه الأحداث، ينطلق من مبدأ شرعي ملتزم، ونظرة شمولية، توازن بين المصالح والمفاسد، بحيث تتحقق أكثر المصالح وتندفع أكبر المفاسد، وما حمد الذين خرجوا موقفهم، وما تحقق ما أرادوا من المصالح إلا بارتكاب ما هو أعظم من المفاسد، ولكنهم مع ذلك اجتهدوا فأخطأوا في اجتهادهم والله يثيب المجتهد وإن أخطأ.

منهجه في عرض المادة العلمية:  لقد عرض ابن سعد مادته العلمية وفق منهج يتسم بالدقة، والأمانة، والموضوعية، وجودة السبك والتنسيق، إلا في مواطن قليلة، قد يلاحظ فيها التكرار، أو التعارض، وعذره في ذلك يعود إلى طبيعة الأسلوب العلمي الذي اتبعه في تدوين المعلومات، والذي يقوم على الجمع والاستقصاء للروايات الواردة في الموضوع الواحد، وتدوينها بالأسلوب الحديثي القائم على الإسناد لكل معلومة وإن قل شأنها، والمستكثر للطرق وإن كانت المعلومة واحدة، وهذا الأسلوب يحقق الموضوعية العلمية، فينقل إلى القارئ الأقوال، برواتها، وألفاظها، دون أن يتدخل بالانتقاء والحذف، الذي يؤدي إلى سلك الموضوع في اتجاه معين وهذا لا يجعلنا نعتقد أن دوره هو الجمع فقط، ذلك أنه مع الجمع قام بعملية التصنيف والترتيب حيث وضع كل مادة علمية في موضعها المناسب، كما أنه مارس النقد والترجيح [4] بين الروايات - بعد أن وضعها أمام القارئ، وحتى لا يلزمه برأي محدد - ولكنه لم يكثر من هذا.

 - ومن معالم منهجه الالتزام بالإسناد في غالب الكتاب [5] وأسانيده منها المتصل، ومنها المرسل، ومنها المعلق، ومنها المنقطع، ومنها المبهم، مثل قوله: أُخبرت، ذُكر لي، روى قوم، قال بعض أصحابنا، قيل، روي، زعم بعض الناس.

 كما أنه يستخدم الإسناد الجمعي في الأخبار الطويلة، ثم يقطعه بأسانيد مفردة، ثم يعود لسياق الخبر الأساسي، بقوله: رجع الحديث إلى الأول.

 - بعض التراجم مطولة [6]، ويقسم الكلام فيها إلى مباحث وموضوعات، ويجعل لها عناوين، وبعضها مختصراً جدًا [7]، بل بعضها بدون ترجمة، ولعل مرد هذا إلى عاملين:  أولهما: مدى أهمية الشخص المترجم له وأثره في الحياة العامة أو الحياة العلمية.

 وثانيهما: مدى توفر المعلومات عن الشخص المراد ترجمته، فبعض الأشخاص تكون المعلومات عنهم كثيرة، وبعضهم ممن لا تتوفر عنه معلومات عند المصنف على أقل تقدير.

 يبدأ الترجمة بذكر الاسم، ثم يسوق النسب ويرفعه إلى القبيلة التي ينتسب إليها، ثم يذكر أولاده، الأبناء والبنات، وأمهاتهم، ثم ينسب الأم ويرفع نسبها إلى البطن أو القبيلة، إلا إذا لم تتوفر لديه معلومات.

 ويوضح - غالباً - حال الأبناء من زواج وإنجاب، أو موت قبل الزواج، أو انقراض النسل، ويذكر تاريخ ولادة المترجم له إذا توفرت المعلومات، ويذكر بعض شيوخه وتلاميذه، وبعض ما روى، وانتقاله من مصر إلى آخر.

 ويذكر تاريخ وفاته، وسببها، ومكانها، وينهي ترجمة غير الصحابي - غالباً- بالحكم عليه جرحاً وتعديلاً، وبيان منزلته عند المحدثين.

 

_________________________

(1) سير أعلام النبلاء 11/85.

(2) وقد يسر الله لنا تحقيقها على منهج علمي معلوم مقررة قواعده وأصوله منهج المحدثين.

(3) انظر السند رقم (91، 92) في الطبقة الخامسة (مطبوعة على الآلة الكاتبة)، وهما بمعنى واحد والنص صحيح أخرجه أحمد وغيره وإن كان ابن سعد رواه من طريق الواقدي.

(4) انظر: أمثلة لذلك في الطبقات: 3/245، 247، 449، 575، 583، 601، 626، والسند رقم 677، في الطبقة الخامسة.

(5) يقل استخدام الإسناد كلما اقتربنا من عصر المؤلف، وخاصة عن التابعين وأتباعهم في المناطق التالية: واسط، وخراسان، والمدائن، والرى، وقم، وهمدان، وبغداد، والأنبار، والعواصم والثغور، ومصر، وأيلة، وأفريقية، والأندلس.

(6) مثل تراجم الخلفاء الأربعة، وخاصة عمر، ومثل ترجمة ابن عباس، والحسن، والحسين، وعبدالله بن الزبير، وبعض التابعين مثل: محمد بن الحنفية، وسعيد بن المسيب، وعليّ بن الحسين، وعمر بن عبد العزيز، ومسروق، والشعبي، وسعيد بن جبير، وابن سيرين، والحسن البصري.

(7) انظر الطبقات:5/245 - 252 و 7/226، 227، 7/245، 7/ 284، 285.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply