الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
وأنا أقلب صفحات سير أهل العلم الصادقين، والدعاة المخلصينº لمحت عيني موقفاً بطولياً من مواقف النساء اللواتي ربين أنفسهن على نصرة الحق والتوحيد، في قلب سيرة الإمام المجدد، والعلامة المجاهد محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -، كان ذلك الموقف العصامي، والمعلم الفريد.
إنه موقف الداعية الموفقة موضى بنت وطبان - رحمها الله -، وقبل أن أستبق الخطى، وأتعجل السير، أحب أن أسوق لك - أيتها المؤمنة - هذه القصة بتمامها مع اختصار يسير لكي يكون هذا الموقف ناصعاً واضحاً، نستلهم منه العبرة، ونستفيد منه الموقف والفكرة، وندونه في مخيلات الذهن، ونطبقه في واقع العمل.
تعلمي - أختاه - أن الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - قام بنشر دعوة التوحيد في الجزيرة العربية خصوصاً، وفي سائر البلاد عموماً، ولو قرأت سيرته العطرة لرأيت ما لاقى في سبيل ذلك من المصاعب والإحن، والبلايا والمحن، وهو مع ذلك ثابت على مبدأه، منيب وراجع إلى ربه، ويذكرني ثباته بالجبل الشامخ صاحب القمة السامقة، الذي تصطك في وجهه الرياح والأعاصير، ثم تهوى في قاعه، أو في مطنب أرضه، وهو مع ذلك شامخ الرأس، لم تغير من هيئته شيئاً تلك الرياح العاتية.
وكان الشيخ محمد - رحمه الله - مستلهماً كل خطاه من كتاب ربه، وسنة رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً -، وفي فترة من فترات دعوته استقر به المقام لينشر دعوة التوحيد النقية في بلاد العيينة بعد أن ناصره أميرها عثمان بن معمر، وخلى سبيله بالصدح بالحق، ونشر دعوة التوحيد بين الأمم والخلق، فبدأ يلقي الدروس في المساجد، ويعرض للناس حقيقة التوحيد ونقاءه، وحقيقة الشرك وشوبه وكدره، وذهب رحمه الله - وقطع شجرة كانت في العيينة ويقصدها الناس بطلب المدد والغوث، وعبادتها من دون الله، وذهب عند الجبيلة وهدم القبة التي كانت على قبر زيد بن الخطاب - رضي الله عنه - لأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن البناء على القبور خشية أن تعبد من دون الله، وتقصد بالدعاء والتعظيم، لكن الحسدة الذين لا يريدون إقامة الحق بين العباد والبلاء ذهبوا لأمير الإحساء، ووشوا إليه ما يفعله الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - في العيينة تحت بصر ونصرة أميرها عثمان بن معمر، فثارت ثائرة أمير الأحساء (سليمان بن عريعر) خوفاً أن يصل مدد التوحيد إلى بلاده، فأرسل رسالة لأمير العيينة عثمان بن معمر، وأمره إذا وصلت الرسالة أن يقتل الإمام محمد بن عبد الوهاب، وإن لم يقتله فسيقطع عنه الخراج السنوي، فجاء عثمان بن معمر للشيخ محمد بن عبد الوهاب وقال له: إنه قد أتانا خطاب من سليمان قائد الأحساء، وليس لنا طاقة بحربه ولا إغضابه، فقال الشيخ: إن هذا الذي قمت به ودعوت إليه كلمة لا إله إلا الله، وأركان الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن أنت تمسكت به ونصرته فإن الله - سبحانه - يظهرك على أعدائك، فلا يزعجك سليمان ولا يفزعك، فإني أرجو أن ترى من الظهور والتمكين والغلبة ما ستملك بلاده وما ورائها وما دونها، ولكن عثمان تعاظم في صدره أمر حاكم الأحساء فأمر الشيخ بالخروج من العيينة، فذهب الشيخ إلى الدرعية حيث أنه لاحظ إخلاص كثير من أهل تلك البلدة للدعوة السلفية، ولما وصل إليها علم بعض أهل الدرعية بمجيئه - وهنا يا شعلة الخير شاهد المقال - فلقد فكر بعض وجهاء تلك البلدة أن يكلموا أميرها محمد بن سعود - رحمه الله - عن هذا الشيخ ودعوته، ولكنهم هابوه وخشوا أن يكلموه، فما كان منهم إلا أن أتوا إلى زوجته الأميرة موضى بنت وطبان - رحمها الله - وكانت ذا عقل ومعرفة، فأخبروها بمكان الشيخ، وصفة ما يأمر به وينهى عنه، فوقر في قلبها معرفة التوحيد، وقذف الله في قلبها محبة الشيخ، فلما دخل عليها زوجها محمد أخبرته بمكانه، وقالت: إن هذا الرجل أتى إليك وهو غنيمة ساقها الله لك، فأكرمه وعظمه، واغتنم نصرته، فقبل قولها، وألقى الله - سبحانه - في قلبه للشيخ المحبة.
فتردد الإمام محمد بن سعود هل يذهب للشيخ محمد أو يدعوه إليه؟ فأشير إليه - وقيل إن الأميرة موضى بنت وطبان - رحمها الله - هي التي أشارت عليه مع جماعة من الصالحين وقالوا له: لا ينبغي أن تدعوه إليك، بل ينبغي أن تقصده في منزله، وأن تقصده أنت، وأن تعظم العلم والداعي إلي الخير، فذهب إليه، وتعاهدا على نصرة الحق والدعوة والجهاد في سبيل الله.
أرأيت يا أمل الأمة إلى موقف هذه المرأة الصالحة، وكيف أنها كانت مشعل الخير في تحبيب هذه الدعوة السلفية إلى زوجها الإمام محمد بن سعود - رحمه الله -، نعم أيتها - الطاهرة العفيفة - كم هن النساء اللاتي يحفظن تلك الكلمات النيرات (من آثر الراحة فاتته الراحة، واتركي الوسادة لتلحقي بالسادة، وبقدر ما تتعنى تنال ما تتمنى)، وكثير منهن من يحفظ قوله تعالى: ((ادعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ))(النحل: 125)، وقوله سبحانه: (( وَمَن أَحسَنُ قَولاً مِمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسلِمِينَ))(فصلت:33)، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: كم هن النساء اللواتي غيرن مجرى حياة غيرهن من التعيسات، وفتحن لهن مشاريع الخير والهدى والبر؟ كم هم النساء اللواتي حملن هم هذا الدين فوق أكتافهن، وعلى رؤوسهن؟ كم هم النساء اللواتي آزرن أزواجهن إذا كانوا دعاة في سبيل الله، فحفظن بيوتهن، وأطعن أزواجهن، واشتغلن معه بالدعوة إلى الله
وكم فتاة زهت بالطهر صادقة إذ لقنت بيتها القرآن والسننا
وكم فتاة هوت من أوج مطلعها بالانحراف وراحت تدفع الثمنا
لقد صدق الذي قال: ما من رجل عظيم إلا وراءه امرأة عظيمة، فهل تأملت أختاه ما فعلته موضى - رحمها الله - مع زوجها حتى صدق بالدعوة، وأتاح لها السير في بلاده، ونشرها بالدعوة والبيان، والسيف والسنان، كل هذا بعد أن أثار عزائمه تلك المرأة الصادقة التي لم ينس ولن ينس التاريخ موقفها الخالد الأبي.
أي أخية بمثل هذا الهمم ترتفع راية التوحيد، وتنتشر في أنحاء المعمورة، ولو أردنا أن نستعرض سير سلفنا الصالح من النساء الصالحات لوجدنا من أولهن ركضاً لسوق الدعوة، وتثبيت القلوب عليهاº أم المؤمنين خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها -، وما قصتها بخافية على كل صاحبة لب، ولكننا نريد أن نستفيد من موقفها مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي - وكان خائفاً مذعوراً، وهو يقول: (زملوني!زملوني!)، فقامت خديجة - رضي الله عنها - وفعلت ما يلي:
1- ثبتت قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - على الدعوة.
2- أزالت الرهبة والهلع من قلبه.
3- ذكرت له ماضيه وسوابقه العظيمة من مكارم الأخلاق وسموها.
4- ذهبت هي وإياه - عليه الصلاة والسلام - إلى ابن عمها ورقة بن نوفل لتسأله عما حصل له - صلى الله عليه وسلم-. 5- آمنت برسالته - صلى الله عليه وسلم -، وشدت من أزر دعوته، وناصرته كل المناصرة، ولهذا فقد بشرها جبريل - عليه السلام - ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (أتى جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتتك معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا أتتك فاقرأ - عليها السلام - من ربها - عز وجل - ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب ).
ولما ماتت حزن عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكان يقول: (آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس) قال ابن حجر - رحمه الله - في الإصابة ( 8/60 ): (وكانت خديجة - رضي الله عنها - أول من آمن بالله ورسوله، وصدق بما جاء به، فخفف الله بذلك عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فكان لا يسمع شيئاً يكرهه من الرد عليه فيرجع إليها إلَّا تثبته، وتهون عليه أمر الناس) ا.هـ.
فلو كان النســـــــــاء كمن ذكرنـــا لفضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ومـا التذكيــــــــر فخر للهـلال
فامضي أخيتي على ما سار عليه سلفك الصالح، واقتحمي بوابة الدعوة، وأصلحي وابذلي ما تستطيعي من وقت لنشر العقيدة الإسلامية، يقول الإمام ابن تيمية - رحمه الله -: ( الدعوة إلى الله هي الدعوة إلى الإيمان به، وبما جاءت به رسله، بتصديقهم فيما أخبروا، وطاعتهم فيما أمروا ) مجموع الفتاوى ( 15/157 )، ويقول تلميذه العلامة ابن القيم في كتابه مفتاح دار السعادة ( 1/153): ( فمقام الدعوة إلى الله أفضل مقامات العبد )، وكان ابن الجوزي يقول: أول قدم في الطريق بذل الروح، هذه الجادة فأين السالك )(المدهش صـ299).
فيا فتاة الإسلام، وبهجة الأنامº لا تكن تلك المرأة الغربية حريصة على نشر دعوتها في أدغال أفريقيا على دبّاب كهربائي لأنها تريد أن تموت وقد ضل أناس على أيديها إلى النصرانية!!، ولا تكن ( كورنيلا دلنبرج ) وهي الفتاة التي لم يتجاوز عمرها الثامنة عشر، وقدمت للبحرين في دول الخليج، وكانت تتفانى في نشر النصرانية هناك، وأطلق عليها اسم (شريفة الأمريكية) لا تكن هذه الفتاة أغير منك على دينها، والله المستعان.
واعتزي أختاه بدينك الإسلامي، وتذكري قول أحد السلف حين قال عنه: (يا له من دين لو أن له رجال)، قلت: (ونساء ينشرونه بين كل الآفاق)، وأختم بكلام للأستاذ الفاضل (محمد أحمد الراشد ) وقد ذكره في كتابه المنطلق ص 141 حيث قال: ( ووالله لا نجاح للدعوة ولا وصولº إن أعطيناها فضول الأوقات، ولم ننس أنفسنا وطعامنا، إن جاهلية القرن العشرين زادت ظلام القرون الأخيرة ظلاماً، فلا ترض العيش في الظلام بل:
كن مشعلاً في جنح ليل حالك يهـــــدي الأنام إلى الهدى ويبين
وانشط لدينك لا تكن متكاسـلاً واعمل على تحريك ما هو ساكن
والله يأمر بالعشيــــــــــــــرة أولاً والأمـــــــر من بعد العشيرة هين
ومع ذلك أختاه كوني كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (من الذين يعلمون الحق، ويرحمون الخلق).
أختاه: اجتمعي أنت وأخواتك في الله، وتعاهدوا على الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل ذلك برفق وحكمة (( والله معكم ولن يتركم أعمالكم))، وصلى الله وسلم على عبده محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد