بسم الله الرحمن الرحيم
إخوتي وأخواتي
أبنائي وبناتي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
هناك ناس مساكين يستغرقهم العمل للدنيا آناء الليل وأطراف النهار فلا يجد أحدهم ساعة، بل لا يجد دقيقة يمكن أن يلقى فيها أحدًا..
أو أن يلقى نفسه فيها..فتراه يقوم من الصباح الباكر مسرعًا إلى العمل.. ويظل في معاناة مستمرة للعمل إلى أن يأتي المساء.. يختلس لحظات من وقته ليطعم لقيمات يقمن صلبه.
وعندما يعود إلى بيته قريبًا من منتصف الليل يلقي نفسه في الفراش هامداً[1]، لا يستطيع أن يتكلم.. أو أن يؤانس أحدًا.. أو أن يقرأ في كتاب، أو أن يقوم بآية قربة إلى الله.. ثم يغطّ في نوم عميق.. وهذا دأبه كل يوم.
ومن الطرائف أن واحدًا ممّن يستهلكهم العمل لقي صديقًا قديمًا عرضًا في الطريق فقال له هذا الصديق: مرحبًا بأخي إني أريد أن أراك، فقد مضى وقت طويل لم نلتق فيه. فقال له صاحبه وهو يحاوره: وأنا كذلك مشتاق إليك وكم ذكرتك وتمنيت أن أجلس إليك.. وإنني منذ حين أبحث عن ساعة في الأربع والعشرين ساعة أكون فيها فارغًا لأسعى إليك.. ولكنني لم أجد، وتمنيت أن لو كان هناك مجال من الزمن خارج الأربع والعشرين ساعة المعروفة إنني يا صاحبي مشغول في الليل وفي النهار.. ثم قطع حديثه ومضى مسرعًا ليقضي ما ينتظره من الشغل.
مسكين هذا الإنسان.. إنه مسكين حقًّا.
متى يحاسب نفسه؟ متى يهذب نفسه؟ متى يثقف نفسه؟ متي يقوِّم نفسه؟ متى يتفكر في ملكوت الله وخلقه ليعتبر ويتذكر؟
متى يجلس مع زوجه يخطّط معها المنهاج السديد لبناء الأسرة؟
متى يربّي أولاده على حبّ الله وحب رسوله وعلى الخير والإسلام؟
يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن روح القدس نفث في روعي أنّه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)). رواه ابن ماجه برقم (2144)، وابن حبان \"موادر الظمآن\" برقم (1084)، والحاكم في \"المستدرك\" (2/4) وغيرهم.
الرزق مقسوم من الأزل، وقد صحّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
((إنَّ أَحَدَكُم يُجمَعُ خلقُهُ في بطنِ أُمِّه أربعينَ يومًا نطفة، ثمَّ يكونُ عَلَقَةً مثلَ ذلك، ثمَّ يكونُ مُضغَةً مثلَ ذلك، ثمَّ يُرسَلُ إليه المَلَكُ فينفُخُ فيه الرٌّوحَ، ويُؤمَرُ بأربَعِ كلِماتٍ,: بِكتب رزقه وأجله وعمله وشقيُّ أو سَعِيدٌ... )). رواه البخاري (3208)، ومسلم (2643).
ولا يعني هذا الكلام أن يقعد المرء في بيته وينتظر مجيء الرزق إليه، وقد روي عن أمير المؤمنين الخليفة الثاني العظيم أنه قال: \"لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة\".
إنّ عليه أن يسعى بإجمال كما جاء في الحديث قال الله - تعالى -:
{يَاأَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَومِ الجُمُعَةِ فَاسعَوا إِلَى ذِكرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيعَ ذَلِكُم خَيرٌ لَكُم إِن كُنتُم تَعلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرضِ وَابتَغُوا مِن فَضلِ اللَّهِ وَاذكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ} [الجمعة: 9-10].
إن عليه أن يبتغي من فضل الله وفق ما شرعº ففي ذلك قضاء حق أولاده الصغار، وقضاء حق أبويه الكبيرين إن كانا على قيد الحياة، وفي ذلك الغنى عن الناس.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود - عليه الصلاة والسلام - كان يأكل من عمل يده)). رواه البخاري (2072). وقال صلوات الله عليه: ((لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه)). رواه البخاري برقم(1470)، ومسلم برقم (1042).
إن الرزق مقسوم كما ذكرنا فعلى المرء أن يطلبه بلطف. أما الانهماك في شؤون الدنيا فإنه لا يزيد في الرزق، فقد ورد أنَّ \"من كانت الدنيا همّه، فرَّق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يؤته من الدنيا إلا ما كتب له\".
إن المسلم صاحب رسالة يريد أن يؤديها، ومن كان في شغل دائم لا يستطيع أن يفعل شيئًا من ذلك.. إن عليه أن يوازن بين الواجبات والحقوق، فلا ينصرف إلى أمر واحد وينسى الأمور الواجبة الأخرى.
صحيح أن كسب الرزق الحلال واجب ليكفي نفسه ومن يعول، ولكن إلى جانب ذلك واجبات كثيرة: من أداء العبادات المفروضة، ومن صلة الأرحام، ومن تبليغ شرع الله، ومن القيام بحقوق الزوجة والأولاد، ومن رعاية جسمه وأعضائه.
فقد قال سَلمانُ لأبي الدَّرداءِ: ((إنَّ لربِّكَ عليكَ حقًّا، وإن لنفسِكَ عليكَ حقًّا، ولأهلِكَ عليكَ حقًّا، فأَعطِ كُلَّ ذي حَقٍّ, حقَّهُ)). فأتى أبو الدَّرداء النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((صَدَقَ سَلمَانُ)). رواه البخاري (1968).
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لعبد الله بن عمرو: ((صم وأفطر، ونم وقم، فإنَّ لجسدكِ عليكَ حقًّا، وإن لعَينَيكَ عليك حقًّا، وإن لزوجكِ عليكَ حقًّا، وإن لزَورِك عليكَ حقًّا... )). رواه البخاري (1975)، ومسلم (1159).
ألا فليراجع كلُّ منا نفسه، وليضبط تصرفاته بميزان الشرع، ولينظم وقته فإنه يستطيع بالتنظيم أن يوازن بين الأمور كلها. ولنعلم جميعًا أنّ الصحة والفراغ نعمتان من أكبر نعم الله، والسعيد السعيد من يغتنم نعم الله ويسخرها للخير ليزداد قربًا من الله.
يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اغتنم خمسًا قبلَ خمسٍ,: شبابَكَ قبلَ هَرمِك، وصحتِكَ قبلَ سَقمِكَ، وغناكَ قبلَ فقرِكَ، وفراغَكَ قبلَ شُغلِكَ، وحياتَكَ قبلَ موتِكَ)). رواه الحاكم في \"المستدرك\" (4/306).
والحياة الدنيا دار غرور، وهي إلى الزوال صائرة، والعاقل من يسابق إلى مغفرة الله قبل أن يأتيه الأجل.
يقول الله - تعالى -: {اعلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدٌّنيَا لَعِبٌ وَلَهوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَينَكُم وَتَكَاثُرٌ فِي الأَموَالِ وَالأَولاَدِ كَمَثَلِ غَيثٍ, أَعجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدٌّنيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ * سَابِقُوا إِلَى مَغفِرَةٍ, مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ, عَرضُهَا كَعَرضِ السَّمَاءِ وَالأَرضِ أُعِدَّت لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضلُ اللَّهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ} [الحديد 20-21].
والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد