نظرت إليه، فإذا به طفل لم يتجاوز الثانية عشر من عُمُره، والدموع تتسابق إلى مُحياه، وهنا أكمل قائلاً:
إنك لا تعلم ماذا يصنع بي في المنزل!!، وكيف يكون بيتنا إذا غَضِب!!
مسكينة أيتها الأجساد الغَضَّة، ومسكينة تلك النفوس الطاهرة، ومسكينة هذه المشاعر الرقيقة..
إننا وتحت شعار \" التربية والتقويم \" نقف حجر عثرة أمام استمتاع فلذات أكبادنا بطفولتهم البريئة، بل إننا لنطبع وسماً سلبياً في حياتهم لا يُمكن إزالته، إن كثيراً من الآباء وبعض المعلمين لا يعرفون من فنون التربية والتوجيه إلا المفردات المُحقِّرة، والعصا الغليظة التي تنخر في شخصيتهم المطمئنة الوادعة لتحيلها إلى قائمة من السلوكيات السلبية البائسة، وهنا يحق لنا أن نتساءل!!؟
هل أدت \" المفردات المُحقِّرة والعصا \" الدور المناط بها في التربية الإيجابية!!؟
هل عالجت هذه الوسائل السلوكيات السلبية لدى الطفل!!؟
بل هل أنتجت لنا جيلاً مخلصاً لمجتمعه، واثقاً من نفسه، مدركاً حقيقة تصرفاته!!؟
هل يمكن أن نُدرك أننا لا نُقدِّم لأبنائنا من خلال الضرب سوى الخوف!! وأن ضربه سيكون حائلاً بينه وبين إدراكه للسلوكيات الحسنة، ولكيفية تعديل سلوكياته الحالية.
أم أن الضرب بالعصا والتوبيخ بالمفردات المُحَقِّرة هو أقصر الطرق وأسهلها ليتخلَّص المربي من الموقف السلبي الذي أقدم عليه الابن!!؟
إن المتأمل لمخرجات التربية بهذه الوسائل يجد أن قائمة النتائج تحوي: \" العناد، والعدوانية، والتوتر، والخوف، والاكتئاب الشديد، وضعف الشخصية، والتردد في اتخاذ القرارات، وانخفاض مستوى التحصيل العلمي، وعدم الثقة في المجتمع، بل إن اعتياد الابن على الضرب والتوبيخ كوسيلة أساس للعقاب يؤدي إلى اللامبالاة لديه، وهو الأمر الذي يتحول معه إلى أن يكون ثائراً على كل القيود الشرعية أو الاجتماعية أو الأسرية.
وإن كان المربي مقتنعاً بالضرب أسلوباً من أساليب التربية لا محالة، فقد ذكر بعض أهل العلم ضوابط لذلك منها:
(1) أن يكون عمر الطفل عشر سنوات فما فوق لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (واضربوهم عليها لعشر) (مختصر إرواء الغليل: 1/60).
(2) أن يكون الضرب على قدر الخطأ الذي وقع فيه الطفل.
(3) أن لا يتخذ المربي الضرب عادة مستمرة، وأن يتأكد من آثاره الإيجابية قبل استعماله.
(4) أن لا يصاحب الضرب توبيخ، وأن لا يكون أمام الآخرين، وخاصة أمام الأقران.
(5) أن يكون الضرب خفيفاً بحيث لا يكسر عظماً ولا يخدش جلداً.
(6) أن يأتي الضرب بعد التغافل والتعليم والتنبيه والتحذير والتذكير بالله.
(7) أن يتوقف المربي عن الضرب إذا بكى الطفل أو هرب أو أظهر الندم أو سأل بالله.
(8) أن يفرق الضرب وأن يتجنب الوجه والأماكن الحساسة.
إن شخصيات أبنائنا ليست بتلك السلبية التي نحتاج معها إلى الحزم التام والضرب بيد من حديد لتقويمهاº فالابتسامة، والنظرة الحانية، والمسح على الرأس، والتوجيه بصورة منفردة، والهدية التشجيعية، والتربية بالقدوة، والقائمة تطول.. كلها وسائل أنجع من العصا، وأفضل من المفردات المُحَقِّرة، وأقرب لسنة نبي الرحمة وسلوك المربي الأول - صلى الله عليه وسلم -.
فلماذا لا نعرف في مفردات التربية إلا العقاب وننسى الثواب، وقد جمع الله بينهما فقال:
(فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِم أُجُورَهُم وَيَزِيدُهُم مِن فَضلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ استَنكَفُوا وَاستَكبَرُوا فَيُعَذِّبُهُم عَذَابًا أَلِيمًا) (النساء / 173)
لم لا يرانا أبناؤنا أمامهم إلا حين يرتكبون مخالفة!!؟ أما حين قيامهم بالأعمال الإيجابية وانتظارهم للتشجيع والثواب فإننا نتوارى عن أعينهم.. ألا يولد ذلك قناعة لديهم بأن التصرفات الإيجابية ليست مهمة.
بل لم لا يتم العقاب بطرق أكثر إيجابية من الضربº حرمان من بعض المصروف اليومي، منعه من الخروج مع زملائه، تكليفه ببعض أعمال المنزل المناسبة مع سنه، عدم الحديث معه لفترة معينة.. ونحو ذلك.
وإذا أردنا أن نتعامل بإيجابية مع أخطاء أبنائنا، فلنلاحظ الجوانب التالية:
1. التغافل عن الأخطاء اليسيرة أو العابرة، وعدم ذكرها أو إعادة الإشارة إليهاº حتى لا نؤصِّلها لديه.
2. تجنب الانتقاد الشديد، ويكتفى بتوجيه الابن بأن ما فعله كان خطأ مع العتاب اليسير، وبيان سبب هذا الخطأ، وكيفية تعديل سلوكه في المرة القادمة.
3. ليكن ذمَّنا للفعل وليس للابنº فلا نقول \"أنت ابنٌ مهمل\"، بل نقول: \"الإهمال صفة سلبية ينبغي تجنبه يا ابني الحبيب\".
4. تَجنُب الانفعال الشديد وكثرة الصراخ، فلابد من ضبط النفس وعدم رفع الصوت إلا بالقدر المحتاج إليه، كما ينبغي تجنب كثرة المراقبة لتصرفات الابن، وكذلك البعد عن المعاملة الجافية معه طوال اليوم، والتأكيد على عدم الدعاء عليه، فقد قال ابن المبارك - رحمه الله - لمن جاء يشكو عقوق أبنائه: (لعلك تدعو عليهم قال: بلى قال: \" فأنت أفسدتهم\". والنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أن يدعو الرجل على نفسه أو أهله أو ماله إلا بخيرº لأنه ربما صادف لحظة يستجاب فيها الدعاء فتكون الاستجابة، وأيضاً تجنب كثرة الشكوى من الابن أمام الناس، لا سيما إذا كان يسمع الشكوى.
5. في حالة تكرار الخطأ يمكن حرمانه مما يشتهيه لفترة معينة.
6. وأخيراً فإن الحب والتسامح وتأكيد ثقة الابن بنفسه واحترام استقلال شخصيتهº أقوى وأنفع من الغضب والانفعال، فليكن بيننا وبين أبناءنا علاقة ود وصداقة.
ولنتأمل هذه المشاهد من حياة نبينا الكريم - صلى الله عليه وسلم -:
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَيئًا قَطٌّ بِيَدِهِ، وَلَا امرَأَةً وَلَا خَادِمًا إِلَّا أَن يُجَاهِدَ فِي سَــبِيلِ اللَّهِ) (رواه مسلم: 2228).
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، قال: خَدَمتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَشرَ سِنِينَ، وَاللَّهِ مَا قَالَ لِي أُفًّا قَطٌّ، وَلَا قَالَ لِي لِشَيءٍ, لِمَ فَعَلتَ كَذَا وَهَلَّا فَعَلتَ كَذَا). (متفق عليه).
ثم لننظر إلى الرعاية العاطفية والنفسية للطفل، ففي صحيح البخـاري (2366) عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أُتِيَ بِشَرَابٍ, فَشَرِبَ مِنهُ، وَعَن يَمِينِهِ غُلَامٌ وَعَن يَسَارِهِ أَشيَاخٌ، فَقَالَ لِلغُلَامِ: (أَتَأذَنُ لِي أَن أُعطِيَ هَؤُلَاءِ)؟ فقَالَ الغُلَامُ: لَا وَاللَّهِ لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنكَ أَحَدًا. قَالَ َتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي يده.
صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، فليكن دعاءنا:(رَبَّنَا هَب لَنَا مِن أَزوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعيُنٍ, وَاجعَلنَا لِلمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان: 74) وليكن دعاءنا كذلك: (وَأَصلِح لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبتُ إِلَيكَ) (الأحقاف: 15).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد