بسم الله الرحمن الرحيم
التربية الأخلاقية هي المقياس الصادق الذي تقاس به خطواتُ الشعوب، ونهضات الأمم.
بل هي الأساس المتين الذي تبنى عليه عظمة الأمم وارتقاؤهاº فما ارتقت أمة في العالم القديم أو الحديث إلا وكان سببُ ذلك سموَّ أخلاقِ أفرادها، وقناعتَهم، واقتصادَهم، وحبَّهم الناسَ محبتَهم أنفسَهم، وإخلاصَهم في العمل لوطنهم، وانتشار روح النشاط والإقدام بينهم، وبعدهم من الفخر والرياء، والدسائس والفتن، ونفورهم من الانقسام والمخاصمة.
قال لوثر: ليست سعادة الدول بوفرة إيرادها، ولا بقوة حصونها، ولا بجمال مبانيها، وإنما سعادتها بكثرة المهذبين من أبنائها، وعلى مقدار الرجال ذوي التربية والأخلاق فيها.
وما انحطت أمة، ولا أفل نجم مجدها، ولا زال سلطانها إلا بزوال تلك الأخلاق الفاضلة من نفوس أبنائها، وانغماسهم في الشر والفساد.
والأدلة على ذلك كثيرةº انظر إلى الدولة الرومانية القديمة التي أخضعت العالم القديم، وامتدت شوكتها إلى غالب ممالكه - ترَ أن الأخلاق الكريمة كانت سبب رفعتها، وأن الترف والفساد كانا سبب انحطاطها.
وألقِ معي نظرة أخرى إلى الدولة العربية بعد ظهور الإسلام دين العلم والأخلاق الحسنة ببلاد المشرق وبلاد الأندلس - ترَ أنها قد بلغت بين الأمم أسمى ما تصبو إليه نفوس الشعوب الناهضة حتى كانت جنةَ هذا العالم وزينةَ الحياة الدنيا، وأضحت واسطةَ عقدِ حضارة العالم، والغرةَ المشرقةَ في جبين الأيام، وكعبةَ طلاب العلوم والآدابº فامتد سلطانها، وعلا كعبها، وزها نجمها، وكمل بدرها يوم كانت تنشر ألوية الحضارة على جميع العالم، وتتلو عليه آيات بينات من الهدى والفرقان.
لم تزل الأمة العربية كذلك حتى دبَّ دبيب الفساد الأخلاقي في نفوس أهلها، وتدلَّى إلى الحضيض مترفوهاº فحقَّت عليهم كلمة ربك [وَإِذَا أَرَدنَا أَن نُهلِكَ قَريَةً أَمَرنَا مُترَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيهَا القَولُ فَدَمَّرنَاهَا تَدمِيراً (16)] الإسراء.
حقًّا إن أمراض النفوس لأشدٌّ فتكاً بالشعوب، وأسرع إبادة للأمم من أمراض الأجسام، ومن نظر في تاريخ الأمة المصرية قديماً رأى أن الفضل في تقدمها وعظمتها راجع إلى الأخلاق الكريمة التي كان عليها سلفها.
كتب مسيو بورجيه الذي كان يرافق العالم الأثري شمبليون في سنة 1822 بمصر فيما كتب هذه الكلمة:
\"المصريون كلهم علماء، وهم على ما هم عليه من النقص الخلقي ما وصلت الأمة إلى المجد الحقيقي الذي يرفعها ويعلي شأنها، ولا تصل إلى الاستقلال الحقيقي الذي يرجوه لها كلٌّ محب مخلص لبلادهº فنحن وإن كنا في حاجة إلى العلم عشرين مرة فحاجتنا إلى الأخلاق عشرين ألف مرة\".
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه-: \"تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والوقار والحلم\".
وقال العالم الأخلاقي صمويل سميلز: \"إن العلم يجب اقترانه بالخير فربَّ عالم أقل من جاهل أمانة، وفضيلة، وأخلاقاً، وعملاً بالواجب\".
وقال جورج هربرت الشاعر الإنجليزي: \"الحياة الصالحة خير من كثير من العلم والمعرفة\".
ألا ترى بعد هذا أن العلم لا يغني عن الأخلاق.
ومن تأمل بعين الحق المجردة عن الهوى في مواضع الضعف في الأمة المصرية وجدها كلها أخلاقية، ورأى في أخلاقنا الفردية والاجتماعية دلائل النقص الخلقي تكاد تكون ملموسة باليد.
لو أردنا أن نشرح النقائص الأخلاقية المنتشرة في الأمة لضاق بنا المقام على أن في سردها إثارةً للنفوس، وتهيٌّجاً للخواطرº فأمسكنا عن ذكرهاº إشفاقاً على القارئ، ومحافظة على مكارم الأخلاق.
فإذا أردتم صلاحاً وفلاحاً لأمتنا المصرية العزيزة فاجتهدوا في تربية أخلاق أبنائها، وتخليصها من براثن الفسادº وذلك بنشر الدين بجانب معاهد التعليم، فالدين هو روح الآداب، ومنبع الأخلاق الصحيحة المنزهة عن الهوى والمطامع الشخصية، الدين هو الأساس المتين للتربية الأخلاقية في الشرق قاطبةº فالشرقيون يخالفون الغربيين في تغلب عواطفهم على عقولهم، والدين موطنه العواطف، ومركزه الفؤادº فلذلك كان الشرق من قديم الزمان مهبط الأديان، وموطن الأنبياء والمرسلين.
ولئن جاز لبعض الأمم الغربية تجريد التربية الخلقية من روح الدين فلا يجوز لأمة شرقية كالأمة المصرية أن تسير على هذا المنهجº لأن الوازع الديني، والرجوع إلى خالق قادر خالق الكائنات واقف على السرائر المدفونة في أعماق القلوب أقوى عامل في إصلاح الأخلاق، بل هو الأساس الوحيد لنجاح الأفراد، وعظمة الأمة.
لهذا الغرض قامت جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية، فهدرت شقشقتها حيناً ثم قرت، والآن قد عادت لشنشنتها.
نسأل الله أن يأخذ بيدها، وأن يوفقها إلى إصلاح المعوج من أخلاق الشبيبة المصرية، وأن يهديها إلى طريق الخير والفلاح آمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد