القادة بين المناقب والمثالب


 

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الصفات التي يجب أن يتحلى بها قادة العمل الإسلامي كثيرة جداً كالإخلاص لله - تعالى-، والصدق مع الله - عز وجل - ومع خلقه، والعلم، وملازمة العبادة والذكر، والاعتصام بالكتاب والسنة، والتجرد للحق من أي هوى أو عصبية، والزهد، والورع، والحلم، والصفح وسعة الصدر، والصبر، والثبات، والقدوة الحسنة، والرحمة، والعطف، ولين الجانب، وخفض الجناح للمؤمنين، والثقة بنصر الله - عز وجل -، وعدم الاغترار بالنفس، وتطهيرها من الكبر والتقليد الأعمى والاستئثار بالرأي، والشجاعة في الحق، وعدم الحرص على الإمارة وحب الظهور، وسلامة الصدر من الغل والحسد، والخيانة والحقد والضغينة، وقبول النصيحة، والالتفات إلى عيب النفس، والاعتراف بالخطأ، وقبول النقد من الآخرين، والوضوح في الأفكار والأهداف.

هذه بعض الصفات التي يجب أن تتوفر في الدعاة فضلاً عن قادتهم، وعلى قادة العمل الإسلامي الاستمرار في مجاهدة أنفسهم حتى يغرسوا فيها ما تتحلى بها من فضائل هذه الصفات, ويجاهدوها كذلك حتى تتخلى عن رذائل هذه الصفات، فكمال النفس البشرية إنما يأتي عن طريق المجاهدة، وإذا صدق العبد في مجاهدته لنفسه, ورغب في هداية ربهº فلا بد أن يجد ثمرة هذه المجاهدة بتوفيق وعون وهداية من الله - سبحانه - قال - تعالى-: ﴿(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحسِنِينَ)﴾[العنكبوت:69]، وقال - تعالى-: (﴿وَالَّذِينَ اهتَدَوا زَادَهُم هُدىً وَآتَاهُم تَقوَاهُم﴾)[محمد:17].

وسنتكلم حول بعض هذه الصفات التي يجب أن يتحلى بها قادة العمل الإسلامي، محذرين من بعض المثالب والأخطاء التي قد يقعون فيها، سائلين الله - سبحانه - أن ينفع بها.

 

(1) القادة بين الصراحة وتبرير الأخطاء:

اعتاد بعض القادة على التغاضي عن أخطائهم, والحرص الشديد على تسويفها والتماس المعاذير لدفعها والسكوت عنها، بل قد يتجرأ بعضهم في الدفاع عنها، وتحويلها إلى مكاسب وحسنات, كما اعتاد بعضهم النظر إلى الناقد - أياً كان هدفه أو أسلوبه - بعين الريبة والشك, ومن ثم التهميش والإهمال!

ربما يكون ذلك ضعفاً في التربية والتكوين النفسي للفرد, مما يجعله يخاف من الاعتراف بالخطأ, وربما يظن أن اعترافه بالخطأ يسقط من قدره ومكانته, وربما يكون سبب ذلك التعصب والتحزب الذي يقود إلى الهوى الذي يعمي ويصم, وربما تكون هناك أسباب أخرى تختلف باختلاف الناس والأحوال!

لكن القرآن الكريم يربينا على منهج آخر إنه منهج المراجعة والمحاسبة، وتدارس الأعمال بكل صدق وتجرد, ومن ثم المصارحة والمكاشفة التي تتلمس مواضع النقص والعيب, لا تضخيمها وازدراء النفس من أجلها, ولكن من أجل تدارك الحال وتقويمه.

فالله - عز وجل - عاتب نبيه - صلى الله عليه وسلم - وهو سيد ولد آدم وقائد المسلمين الأعظم في غير آية, قال الله - تعالى-: (﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ الأَعمَى * وَمَا يُدرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَو يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكرَى * أَمَّا مَنِ استَغنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيكَ أَلا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسعَى * وَهُوَ يَخشَى * فَأَنتَ عَنهُ تَلَهَّى﴾)[عبس: 1-10]، وقال - تعالى-: (﴿يَا أَيٌّهَا النَّبِيٌّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبتَغِي مَرضَاتَ أَزوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾)[التحريم:1]، وقال - تعالى-: (﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعلَمَ الكَاذِبِينَ﴾)[التوبة:43].

غاية في الوضوح والصراحة التي تبني الثقة في نفس الإنسان، وتجعله يستثمر هفواته وأخطائه في تقويم النفس وتزكيتها، وإعادة بنائها.

والمصارحة في بيان الأخطاء تعني التناصح وتسديد المعايب بمحبة ورحمة وإشفاق، وهي تعني أيضاً القرب من الناصحين المخلصين لا ازدرائهم وتهميشهم لمجرد أنهم ينصحون لله - عز وجل -، وتعني أيضاً البعد عن المجاملين والمداهنين فهؤلاء ينفخون في الذات الإنسانية حتى تظن أنها قد بلغت الكمال أو قاربت.

 

(2) القادة بين الإخلاص وبريق الإمارة:

ليس عجيباً أن تتواتر النصوص في التحذير من السعي إلى الإمارة فهي فتنة تتساقط تحتها كرامة الرجال، وتنكشف أمامها كمائن القلوب!

ولقد اعتدنا ذلك من الساسة وطلاب الدنيا وأصحاب المغانم الفانية، ولكن الغريب كل الغرابة أن ينتقل الداء داخل بعض التجمعات الدعوية، ويسيطر على بعض النفوس المريضة، من حيث تشعر أحياناً، ومن حيث لا تشعر أحياناً أخرى!، حتى يصبح هَمٌّ المرء أن يسود على خمسة أو عشرة - أو أقل أو أكثر - دون أن يفكر بورع صادق في تبعات ذلك في الدنيا والآخرة.

إن الإنسان عندما يستشرف منصباً أو موقعاً أو مكانةً أو درجةً داخل العمل الدعوي الذي أسس على التقوى، والذي غالبيته عبادة الله وحده، ونيل رضاه من خلال القيام بوظيفة الأنبياء - وهي الدعوة إلى الله عز وجل - فهذه لا شك كارثة جليلة، وهو بذلك يهدم ماضيه المشرق في عمله الدعوي، ويكشف عن نوايا غير حسنة للانضمام لهذا العمل.

وفي الحديث الذي رواه أحمد والترمذي عن كعب بن مالك الأنصاري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)، والحرص على الإمارة: إما في الرغبة في الوصول إلى مرتبة معينة داخل العمل الدعوي، وكأن الأمر لم يعد عبادة ودعوة إنما هو مغنم ومنصب، وهذا المعنى إنما يغيب عن حس الإنسان عند ضعف الإيمان، وإما في حرصه على الاستمرار في عمل معين، أو استمرار غيره في إمرة معينةº لا من أجل القدرة والكفاءة بل من أجل ميل نفسه إليه بسبب قرابة أو جنس، أو أي اعتبارات أخرى.

إن ضباباً كثيفاً يطغى على بصر الإنسان حينما يرى لمعان وبريق القيادة وقد تسلمها، وتظل نفسه تحدثه، ويمنيه هواه بالبقاء فيها، حتى وإن قل عطاؤه، حتى وإن قلت تضحياته، حتى وإن أصبح صورةً، والأمور تدور من حوله دون أن يكون له فيها عمل ملموس، فتراه ينسى نفسه من أجل البقاء فيما مُنح له، ويعض عليه بالنواجذ.

إن من أعظم نعم الله - تعالى- على العبد المسلم أن يجعل صدره سليماً من الشحناء والبغضاء، نقياً من الغلّ والحسد، صافياً من الغدر والخيانة، معافى من الضغينة والحقد، لا يطوي في قلبه إلا المحبة والإشفاق على المسلمين.

لبئست الدعوة حينما تكون مغنماً وجاهاً وشرفاً، ينتفخ فيها المرء ويتيه ويتبختر! وبئس الدعاة - فضلاً عن قادتهم - حينما يسعوا لاهثين وراء زخرف عاجل وعرض قريب، وليعلم القادة ومن حُملت بأعناقهم مسئولية وأمانة هذا الدين أن هذا تكليف وليس تشريف، ليس شرفاً لك أن تكون قائداً بل تكليف تتحمل تبعاته يوم القيامة إن لم تقم بحقه.

وليعلم الجميع أن نصر الله - سبحانه - وتأييده لا يتنزل إلا على عباده المخلصين، الأخفياء، الأتقياء الذين تشرئب أعناقهم وتتطلع قلوبهم إلى النعيم المقيم، في مقعد صدق عند مليك مقتدر قال الله - تعالى-: (﴿تِلكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرضِ وَلا فَسَاداً وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ﴾)[القصص:83].

 

(3) القادة بين سلامة الصدر وحب الانتقام:

إن من أعظم نعم الله - تعالى- على العبد المسلم أن يجعل صدره سليماً من الشحناء والبغضاء، نقياً من الغلّ والحسد، صافياً من الغدر والخيانة، معافى من الضغينة والحقد، لا يطوي في قلبه إلا المحبة والإشفاق على المسلمين.

قد يجد المرء من بعض إخوانه أذىً، أو يصيبه منهم مكروه، وربما يسرف بعض إخوانه في جرحه أو الحط من قدره، ومع ذلك تراه يدعو الله - عز وجل - بقلب صادق أن يتوب على إخوانه، ويتجاوز عنهم، ويهديهم سبل الرشاد، ولا يجد في نفسه سبيلاً للانتقام أو الانتصار للنفس، وبقدر إدبارهم عنه وأذاهم لهº يكون إقباله عليهم وإحسانه إليهم.

ما أجمل أن يتحلى القادة بهذا الخلق الرفيع متمثلين دائماً قول الحق - تبارك وتعالى -: (﴿وَلا تَستَوِي الحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادفَع بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيُّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ, عَظِيمٍ,)﴾[فصلت:35].

وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عنه أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلُمُ عنهم ويجهلون علي! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لئن كنت كما قُلت فكأنما تُسِفٌّهم الملَّ، ولا يزال معك من الله - تعالى- ظهير عليهم ما دمت على ذلك) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها.

لم يعلو قدر الإنسان، وتشرُف منزلته حينما يصل إلى هذه المنقبة العظيمة والخلة الكريمة التي لا يقوى عليها إلا ذوو الصدق والإخلاص، ولا يستطيع أن يصل إلى أعتابها إلا من جاهد نفسه حق المجاهدة، وفطمها عن شهواتها؟!

وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثاً إلى صحابي جليل أنه من أهل الجنة، فلما ذهب إليه عبد الله بن عمرو بن العاص وبات عنده ثلاث ليال لم يره فعَلَ كبير عمل، فعجب عبدالله من حاله وسأله: ما الذي بلغ بك ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال الرجل: «ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه» فقال عبدالله: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق. مسند أحمد (3/166) بإسناد صحيح.

إن هذه الصفة الجليلة من الصفات التي رفعت أقدار الصحابة - رضي الله عنهم - قادة الأمة فيما مضى، ونحن نهيب بقادة الأمة ودعاتها أن يتحلوا بهذه الصفة الجليلة قال سفيان بن دينار لأبي بشير - وكان من أصحاب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: أخبرني عن أعمال من كان قبلنا؟ قال: «كانوا يعملون يسيراً ويؤجرون كثيراً» فقال سفيان: ولم ذلك؟ قال: «لسلامة صدورهم» الزهد (2/600).

ومن ثم فعلى القادة أن لا يشغلوا قلوبهم بما نالهم من الأذى، وطلب الوصول إلى درك ثأرهم، وشفاء أنفسهم، بل يُفرغوا قلوبهم من ذلك، ويروا أن سلامة قلوبهم وخلوها من الثأر أنفع لهم، وألذ وأطيب، وأعون على مصالحهم، فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده، وخيراً له منه، فيكون بذلك مغبوناً، والرشيد لا يرضى بذلك، ويرى أنه من تصرفات السفيه، فأين سلامة القلب من امتلائه بالغل والوساوس، وإعمال الفكر في إدراك الانتقام.

 

(4) القادة بين لين الجانب وموهبة القيادة:

القيادة موهبة توحي للمتلقي أن يتلقى أولاً، وأن يطمئن لما يتلقى ثانياً، لكن أن يطيع وبدون هذه الثقة لدى المتلقي فلا يكون للتوجيه جدوى ولو كانت التوجيهات صحيحة، إن تصدر الأمر هذا وحده لا يكفي، ولو كان الأمر صحيحاً في ذاته وضرورياً في مناسبته، إنما ينبغي أن تكون لدى القائد القدرة على جعل المتلقي ينفذ ذلك الأمر، وإلا فالنتيجة أسوأ من عدم إصدار أمر على الإطلاق!

نعم قد يحدث أحياناً أن يكون العيب في المتلقيº لأنه عاص متمرد، شاذ الطبع، لكن ليس كل إنسان طيب الخصال هو قادر على القيادة، فعلى القائد أن يكون له من شخصيته ما يفرض طاعته على الناس بغير سلطان، وهكذا ينبغي أن يكون القادة، فالقيادة فن معاملة الطبيعة البشرية والتأثير في السلوك البشري وتوجيههم نحو هدف معين، وبطريقة تضمن بها طاعته وثقته واحترامه.

ومركز القائد في الدعوة أي دعوة مركز حساس، وما لم تتوفر في شخصيته الصفات القيادية اللازمة فسيبقى المركز القيادي مزعزعاً مضطرباً، فالقدرة على القيادة فرع عن الشخصية القوية، ولكن هناك حالات تكون فيها الشخصية قوية في ذاتها، ومع ذلك تكون عاجزة عن القيادة لفظاظة أو عزلة، أو عزوف عن الناس أو رعونة وعدم حكمة، وسبحان موزع الطاقات وموزع الأرزاق فلا يقبلها إلا من يرى نفسه أهلاً لها، ولقد كان في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صفات العظمة الخارقة ما يحبب فيه أتباعه حباً كان يغيظ قريشاً، ويثير عجبها حتى قال أبو سفيان - قبل إسلامه - حانقاً: «ما رأيت أحداً يحب الناس كحب أصحاب محمد محمداً»!.

وكان فيه من صفات القيادة والزعامة ما يجعله مطاع الأمر بين أتباعه بغير سلطان، وما كان له عليهم من سلطان قبل إقامة دولة الإسلام إلا سلطان الحب الخالص، والإعجاب العميق، وكان شديد الاهتمام بهم، يرعى كل واحد فيهم كأنما هو صاحبه الأوحد أو صاحبه الأثير عنده، وكان يمنحهم من الحب ما تقر به نفوسهم، فيطمئنون على مكانتهم عنده، ويبادلونه الحب بأقصى ما تستطيع نفوسهم الصافية.

ثم لقد كان عنده ما يعطيهم وأي عطاء؟!

منهج الحياة كلها كبيرها وصغيرها، دنياها وآخرتها، روحها وماديها، والنعمة الكبرى التي تؤهل الإنسان لرضاء الله.

 

(5) القادة بين الإمكانات وتحقيق الأهداف:

عندما يحالف العبد التوفيق لتحقيق أهدافه التي يرسمها لنفسه فإنه يهتدي إلى وضع الهدف الذي يتناسب مع حجمه، وطاقته وقدراته، ويحدد الفترة الزمنية للوصول إلى هذا الهدف على سبيل التقريب، ويقوم بالتخطيط الذي يعين على حسن استخدام الوسائل لتحقيق الأهداف، وبالتالي يجند طاقته، ويضع كل شيء في مكانه، وهو فوق ذلك كله يستعين بالله - عز وجل - ويتوكل عليه.

والمرء بهذه المثابة لا يتعامل مع الأهداف والوسائل بالأسلوب الخيالي، فينسى طاقته وجهده ويضع لنفسه من الأهداف ما يجعله يضيع جهده ووقته دون جدوى، وهذا هو الذي يقع فيه بعض القادة أحياناً، فهم - بدافع الخير والحرص على تحقيق الأهداف العظيمة - قد يرنو ببصرهم إلى غايات عظيمة، وأهداف سامية، غير ناظرين إلى وسائلهم المحدودة، فينظرون لأمور تحتاج إلى إمكانات عظيمة، ثم التحرك لتحقيق ذلك بإمكانات محدودة، وكان الأولى في حقهم أن يجعلوا مثل هذا الهدف على مراحل متعددة حتى يصلوا إلى ما يريدوا، ولكنهم بهذا الأسلوب بددوا الطاقة دون تحقيق ما يريدوا، فلا هم الذين وفروا على أنفسهم ما بذلوه من جهد ووقت وإمكانات مادية، ولا هم الذين حققوا ما يريدون.

ولا شك أن هذا يحتاج إلى الاستفادة من التجارب التي يمروا بها، وأن لا يتكرر مثل هذا الخطأ، وأن لا يحملهم الطموح في تحقيق الخير إلى التسرع والتهور الذي لا يعود عليهم بخير.

 

(6) القادة بين الشورى واستبداد الرأي:

الاستبداد صفة من صفات التسلط وفرض الرأي بالقوة، وهو يقتضي تكميم الأفواه، وقطع الألسن فلا تتحدث إلا في مجال محدود لا تتجاوزه وبطريقة معينة لا تتغير، بل ينطلق الاستبداد أحياناً ليحجر على أفكار الإنسان وخواطره، بل أنفاسه وزفراته!

ولقد وصف بعض الدعاة هذه الحالة من استبداد القادة بالجندي مع قائده المطلوب منه أن ينفذ دون أن يفهم، ولأن الظاهرة شملت قطاعاً آخر وهو مجتمع النساء فلقد وصفت إحدى الداعيات إلى الله - عز وجل - هذه الحالة من تكميم القادة للأفواه، واستبدادهم بآرائهم بالديكتاتورية، ومعاذ الله أن يكون هذا حكماً عاماً يتساوى فيه جميع القادة، ولكن بعضاً قد يأخذ بنصيب وافر أحياناً من هذه الصفة، وهذه الشريحة لا ينبغي إغفالها أو تجاهلها، والاستبداد الدعوي - إن صح التعبير - ممارسة تربوية ذات أبعاد خطيرة، تقتل ملكات الإبداع والإنتاج، وتعطل الطاقاتº ولذا كان لازماً علينا أن نسلط الضوء عليها بجرأة لعلاجها والتخلص منها.

ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية حين قال: «المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، وقد لا ينقطع الوسخ إلا بنوع من الخشونة لكن ذلك يوجب من النظافة والنعومة ما نحمد معه ذلك التخشين» الفتاوى (28/53).

أرأيت إلى ذلك القائد الذي لا يُحب أن يَسمع رأياً غير رأيه، ولا يرضى باقتراح أو نصح من أحد، فإذا تكلم فمن حوله سكوت، وإذا أشار فالناس له تبع، أتباعه ومريدوه حقهم السمع والطاعة، في المنشط والمكره، في العسر واليسر، في الخير والشر!

مفهوم الشورى عنده إخبار الآخرين بما يرىº فإن وافقوه فبها ونعمت، وإن خالفوه، فالشورى عنده مُعلمة لا ملزمة، ولسان حاله يقول: من أنتم حتى تستشاروا أو تبدوا رأياً يخالف قادتكم؟

هكذا توأد الأفكار، وتخنق الأصوات، وتحطم ملكات الإبداع والإنتاج، وينزوي أصحاب الأفكار والملكات بعيداً عن ساحة العمل الدعوي لأن الساحة لا تسعهم وقادتهم.

أخزى الله الاستبداد، فكم قتل من الطاقات، وكم قطع من طرقٍ, للتصحيح والتغيير!

إن مصادرة آراء الآخرين، وغلق الأبواب في وجوههمº يجعل جذور الخطأ تمتد إلى الأعماق، ثم يصعب تصححيها على الأقل أو تخفيفهاº ومن ثم فنحن في حاجة شديدة إلى ترويض ومتابعةº لكي نتعلم كيف نقدر الرأي الآخر، وننجو من مصادرة عقول الآخرين، ولقد كان السلف الصالح والأئمة الأخيار يختلفون فيقول قائلهم: «جائز ما قلت أنت، وجائز ما قلت أنا، وكلانا نجم يهتدى به فلا علينا شيء من اختلافنا» سير أعلام النبلاء (10/617).

إن الاستبداد خصلة لا يعجز عنها أحد في الغالب، وهو دليل على العجز والضعف، ولكن فتح أبواب المشورة، والتراجع عن الخطأ، واتساع الصدر للرأي المخالفº منزلة لا يرقى إليها إلا عباد الله المخلصين.

 

(7) القادة بين النصح في السر والنقد في العلن:

لقد كان من نتاج الصحوة المباركة أن توافد فئام من الشباب الغض إلى ركاب الصالحينº بل إن عامة أتباع الصحوة اليوم وحاملي لوائها هم من الشباب وليس ذلك بغريبº إذ إن ذلك سنة الله في الأمم السابقة واللاحقة.

وحين يتأمل المصلحون اليوم واقع الشباب يرون أن ثمة ثغرات ومواطن ضعف وخلل لديهم لا بد من علاجها وتسديدها، ويأخذ معظم الحديث في هذه الدائرة صفة النقد، ومع الحماس، وتوقد العاطفةº يتحول إلى نقد لاذعº كأن يقال الشباب مهملون في جانب العبادة، ومقصرون في الدعوة، ومفرطون في حق الأخوة، وضعاف في العلم الشرعي، والتزامهم غير جاد إلى غير ذلك.

إن النقد العلمي الموضوعي المعتدل مطلب لا بد منهº لكن الإفراط في استخدام هذا الأسلوب من قبل القادة ينطوي على محاذير، فهو يخرج جيلاً فاقداً للثقة بنفسه، محطم الآمال، يشعر أنه مجموعة متراكمة من الأخطاءº بل إنه يشك في صدق انتمائه وصلاحهº إذ هو لا يسمع إلا النقد والتقريع - سواء نقداً له مباشرة أو نقداً لإخوانه -.

ولا شك أن جيلاً يعيش هذه النفسية سيكون بعيداً عن المزاحمة في ميادين العمل، والنشاط الدعوي.

إن غير واحد حدثني أنه يُفضل أن يمكث في بيته يطلب العلم بدلاً من مزاحمته ميادين العمل مع كثير من النقد والتقريع، وهذا لا يعني التخلي عن النقد، ولا عن بيان الأخطاء، والحديث عنها، لكن كون الأمر لا يروق لنا كقادة أو لم نألفه أو لم يُعجب فلاناً من الناس - أو حكم عليه فلان بأنه غير مناسب - مهما كان شأن هذا الشخص الذي أصدر هذا الحكمº كل ذلك إذا لم يكن منطلقاً من جانب شرعي مراعياً فيه الآداب والأخلاق النبوية فلا يسوغ قبوله، فضلاً عن أن يكون سبباً في الحكم على إخواننا وإسقاطهم.

ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبين الأخطاء، ويثني أيضاً على أصحابه، لكن ذلك بتوازن واعتدال وإخلاص، ولا يمنع أن يفوق المُرَبَى المربِي سواء في الفهم أو التحضير والإلقاء، فالدعوة ليست حكراً على أشخاص بعينهم.

وأخيراً فإن أهم ما أحب التأكيد عليه هو أن أتوجه بالنصح لكل قادة العمل الإسلامي بأن يتجردوا للحق من كل هوى، وأن يؤثروا المصلحة العليا للإسلام والتنازل عن حظ النفس، وهو الذي يخزي الشيطان، ويفوت على الأعداء ما يريدون، ويجمع القلوب على محبة الله ونصرة دينه، ويحمل الصادقين على حسن التعاون، وعلى التفاهم بروح المحبة والألفة التي يفرضها الإيمان.

والله أسأل أن يطهر القلوب مما علق بها من الغل والحقد وسوء الظن، وأن يجمعها على محبته وطاعته والدعوة إلى سبيلهº إنه على كل شيء قدير، والله ولي الهداية والتوفيق

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply