التربية المتكاملة ( 2 - 4 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد نال الصحابة - رضوان الله عليهم - قدراً كبيراً من التربية على يد المربي الأول - صلى الله عليه وسلم -، ونحن اليوم مع شخصية عظيمة قرأت وأنذرت، ثم عبدت الله على أتم وجه وأكمله، ونالت حظاً وفيراً من التربية المتكاملة.

حينما ننظر مثلا إلى هذه الأوامر الأربعة التي جاءت في بواكير الدعوةº وهي:

الأمر الأول: اقرأ.   والثاني: قم فأنذر.

الثالث: قم الليل إلا قليلا.  والرابع: وجاهدهم به جهادا كبيرا.

فهذه الأوامر والجوانب هي أفضل الأعمال وخيرهاº فالدعوة والجهاد، والقراءة والتعلم والعلم والعبادة والتزود من الطاعةº هذه هي المحاور التي كانت تدور عليها حياة الرسول الأكرم - عليه الصلاة والسلام -، وصحابته الكرام - رضي الله عنهم - وأرضاهم ولهم منها أوفر الحظ والنصيب، والمسلم إذا لاحظها كلها، ونظر إليها نظرة سواء، ولم يغلق منها واحدا على الآخر، أو يقدم واحداً على آخرº فإنه بإذن الله يهدى إلى كل خير، ويتوازن في مسيره إلى الله - عز وجل -.

فمثلا: لو أخذنا الأمر الأولº وهو: اقرأº لوجدنا للصحابة بذلك نصيبا عظيماً وكبيرا وكثيراº ولا نذكر بعض أعمال الرسول - صلى الله عليه وسلم -º لأن البعض يقول: هذا الرسول وأين نحن منه!º لكن نذكر بعض أعمال الصحابة وحرصهم على تحقيق هذا الأمرº طلبوا العلم ما داموا أحياء، وما دامت هذه النفس تتردد بين الجوانب وفي الصدر، فإنهم كانوا يطلبون العلم ويسعون إليه، ويرتحلون، ويبذلون ويكدون، وينصبون ويجهدونº حتى ربما سافر أحدهم مسيرة شهرº كما فعل جابر - رضي الله عنه - وأرضاه -º فقد سافر مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس، وقيل قصة لأبي الدرداءº هذه ذكرها البخاري وعلقها في صحيحه - رحمه الله - وذكرها في الرد على الجهمية، وذكرها غير واحد من أهل العلمº وهي سندها صحيحº وذلك:

\" أن جابر سمع أن حديثا عند الصحابي في الشامº بلغه أنه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمعه هوº وكان بإمكانه أن يرسل بريداً أو يوصي أحدا، أو ينتظر حتى يلتقي به في موطن حج أو غيرهº لكنه لم يفعل، وإنما شد على راحلته وقطع المسافة شهرا حتى وصل إلى الشامº فلما طرق الباب خرجت الجارية، قال: أين فلان؟º قالت: من أقول له؟º قال: قولي له جابرº فقالت: ابن عبد الله صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -!!º قال: نعمº فخرج واعتنقه، وقال: ما جاء بك؟! قال: حديث بلغني أنك سمعته من الرسول- صلى الله عليه وسلم - خشيت أن أموت قبل أن أسمعه\" أ هـ.

فما صبر للحج، وما صبر أن يجمعه به مجلس أو جهاد أو سفر أو مناسبةº خشية أن يموت وما سمعهº ولعله يكون فيه شيء يهديه إلى خير ويرشده إليه، أو ينبهه إلى معصية قد يكون واقعاً فيهاº فمن حرصه فعل ذلك.

ولهذا كان طلب علوم الإسناد كما سيأتي إن شاء الله مطلبا عند السلف والصحابةº وإن كان يستطيع أن يرسل أحدا، أو يبعث كتاباº لكنه أراد أن يسمع بأذنه ويقف بنفسه:

\" فقال: نعمº سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا كان يوم القيامةº فإن الله - سبحانه - يجمع الأولين والآخرين، وأشر العباد يوم القيامة هو من لم يؤمن، ويناديهم الله - سبحانه وتعالى - بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب)).

ثم ذكر الحديثº فقال: ((فينادي الله - سبحانه وتعالى -: من كان له عند أحد مظلمةº فلا يدخل الجنة حتى يستوفيهاº فيقتص الإنسانº حتى اللطمة باللطمة)). وذكر الحديث إلى أخره\"أ هـ

فرجع بمجرد أن سمعه، وما كانت له بغية غير هذا.

ولو رأينا مثلا: الصحابة الصغارº كابن عباس - رضي الله عنه -º وهو يعتبر من الصحابة المتميزينº ولهذا يقال أنه من المؤلفين: (أي الذين رووا الأحاديث بالآلاف) تقريبا ألف وستمائة وخمسين حديث رواه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووجد في مسنده، مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما مات كان عمره اثنتي عشرة سنة وبضعة أشهرº ويعرف هذا العلم الغزير العظيم الكبير الكثير.

ويقول الإمام الذهبي - رحمه الله -: \" صحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثلاثين شهرا فقط \".

فهو يتعجب إذا كانت صحبته للرسول وملازمته له ثلاثين شهرا فقطº فهذا الصحابي الذي ملأ الدنيا علماº بحر الأمةº وحبر الأمةº وترجمان القرآن، الأحاديث التي سمعها من الرسول- صلى الله عليه وسلم - بضعة عشر مباشرة، وأكثر أحاديثه يأخذها عن الصحابةº فلما مات الرسول- صلى الله عليه وسلم - وكان صغيرا كما ذكرنا اثنتي عشرة سنة، قال لأحد الأنصار: (هيا بنا إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يتفارطوا نأخذ علمهمº فقال له الأنصاري: يا ابن عباس: وما عسى أن تبلغ مع أصحاب الرسول- صلى الله عليه وسلم - الذين هاجروا معه وجاهدوا؟ ).

يقول: (فجعلت أتردد عليهم، وأذهب إلى الواحد منهم أغدو إليه الغدوةº إلى الرجل من الأنصارº فأجده نائماً فلا أزعجه، وربما توسدت إزاري فنمت على عتبتهº فتأتي الريح وتسجي على رأسي الترابº حتى يخرج إليّ ضحى من النهارº فيقول: يا ابن عم رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ألا كنت آذنتني فآتيك!!..º فيقول: سبحان اللهº العلم يؤتى إليه).

ويرى زيد بن ثابت: صاحب الرسول - صلى الله عليه وسلم -º فيأخذ بلجام دابته ومقودها ويقودهاº(فيقول: يا ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنزل وتركبº أنت ابن عمهº أنت من آل بيته!!º فيقول: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائناº تواضع للهº فيكب عليه ويقبله ويقول له: هكذا أمرنا أن نفعل بآل بيت نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو آل نبينا - عليه الصلاة والسلام -).

ويقول هذا الأنصاري: (فما زال ابن عباس على عملهº حتى رأيت الناس قد اجتمعوا عليه انفردوا بالعلم فقلت: إن لهذا لعقلا) أي: إن هذا لعاقلº حينما أدرك أن الإنسان لا يسود إلا بالعلمº فاجتهد فيه وبعد سنوات يحصل على هذا العلم ويصبح مرجعا للأمة.

يقول أبو وائل: وهو أحد التابعين وشقيق بن سلمة: (لقد رأيت ابن عباس في الموقف أي الحج على الناس يفسر سورة النور تفسيراً لو سمعته الروم والفرس والترك والديلم لأسلموا كلهم)، أوتي بيانا، وبلاغة وفصاحة وصدقاº كان يخطب، وكان يقول: (إن أقل بضاعتي من الشعرº ولو ذهبت أحدثكم شهرا - أنشدكم من الشعر شهرا -º لا أعيد ما قلت ثانية)، فهذا أقل بضاعته، ويحفظ من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - الكثير، والقرآن هو من قرّائه ومن أهلهº وكان يقول:

إن أذهب الله من عيني نورهما * * *  ففي لساني وقلبي منهما نور

عقلي دفي وفكري غير ذي ذخل * * * وفي فمي صارم كالسيف مأسور

ولهذا لما قيل له: (بم حلت هذا العلم؟ قال: بقلب عقولº وبلسان سؤول).

وكان عمر يقول: (هذا صاحب القلب العقول، واللسان السؤول، هذا فتى طموح).

 هذا هو ابن عباس - رضي الله عنه -، وهكذا كان أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -º حرصوا على العلم ومجالس العلمº ولهذا لا يكون هناك مجلس للرسول - صلى الله عليه وسلم -º إلا التفوا حوله واجتمعوا.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply