أزمتنا التربوية


 بسم الله الرحمن الرحيم

من المؤكد أن التصدي لموضوع بالغ الأهمية كالتربية المعاصرة في مقالة واحدة يُعدّ ضرباً من التبسيط الموغل في الخيال، ولكن مما لا شك فيه أن لأزمة التربية نقطة بداية محددة، ثم تتشعب لتشمل جوانب متعددة ربما تكون الإحاطة بها من الأمور بالغة الصعوبة، فضلاً عن علاجها.

لا أحسب أن هناك موضوعاً يشغل لبّ الجميع مثل التربية في هذا الزمن الذي رُزئت فيه الأمة بأبشع إفرازات الحضارة الغربية، التي نحتاجها ونعتمد عليها، ولكننا في الوقت نفسه نصطلي بنيرانها. ولذلك فليس في تقديري أنه من التهويل والمبالغة أن نصف حالنا مع التربية بأنه أزمة.

 

من المسؤول؟

ليس هناك شك في أن المجتمع بكافة شرائحه وطبقاته مسؤول عن تربية أبنائه، وأنه يتحمل تبعات تلك التربية، وأنه كذلك المستفيد الأول من نجاحه في تربيتهم وأنه -في الوقت نفسه- الخاسر الأكبر من إخفاقهم. ولكن السؤال المحوري الذي يجدر بنا طرحه: من هو المجتمع؟ وكيف نمسك بزمام المسؤولية المهملة في تبعات المجتمع المعاصر لنلقي باللائمة على من قصّر في دوره تجاه التربية؟

البحث عن إجابة لمثل هذا السؤال سيقودنا حتما إلى الدخول في حلقة مفرغةº حيث إن البيت والشارع والمسجد والمدرسة، بل والدولة بكافة قطاعاتها تشترك في المسؤولية، وتتحمل التقصير الناتج عن ضعف القيام بمهامها، ولكن كل طرف يلقي بالمسؤولية الكبرى عن الإخفاق أو التقصير على الأطراف الأخرى. وهذا في تقديري هو جوهر أزمتنا التربوية!

 

ملامح الأزمة

نعاني في مجتمعاتنا العربية والإسلامية من إشكالية متجذرة ساهمت المتغيرات الحديثة -ومن أبرزها الطفرات الاقتصادية والانفتاح العالمي- في جعلها سمة لبعض المجتمعات التي صاغت -ربما دون وعي منها- منظومتها الاجتماعية وفقاً لتك المتغيرات، ونتج عن ذلك مزيج متهالك أنتج بناء ثقافياً وفكرياً وأخلاقياً هزيلاً لا يستطيع الصمود أمام تحدّياته المحلية، فضلاً عن التحديات العالمية الكبرى.

أبرز ملامح الأزمة التربوية تكمن في ضعف القدرة على استشعار المسؤوليات الملقاة على عواتقنا، بل وانعدام الرغبة في ذلك. وبهذا أصبح كثير من أفراد مجتمعاتنا يجيدون فناً قلّما يتقنه غيرهم، ألا وهو تبرير التقصير وإلقاء اللوم في ذلك على الآخرين. هذه الحالة النفسية التي تكوّنت في العقل الجمعي ثم تجذّرت بعد بضعة عقود من الإهمال التربوي تتزايد حدتها حتى إن الشخص ربما يسمع -على سبيل المثال- من يسوّغ للمجرم جريمتهº لأن المجتمع لم يوفر له وظيفة محترمة! قد يكون المجتمع وفّر له وظيفة مقبولة أو حتى متواضعة، ولكن كونها ليست محترمة أعطاه مسوغاً نفسياً ليرتكب جريمته، بل ويمتد التسويغ ليجد من يسوّغ له ارتكابها!

 

كيف نواجهها؟

هذه الحالة النفسية الناتجة عن ظروف مختلفة ومتجدّدة لم تحظ باهتمام تربوي كافٍ, على المستوى التطبيقي. ربما يكون الجانب التنظيري لهذه القضية شغل كثيرين عن نقل تلك المهمة إلى حيز التنفيذ ابتداء من الأسرة وانتهاء بالمؤسسات التعليمية العليا. ولكوني لست متفائلاً بأن توكل مثل هذه المهمات الحيوية إلى مؤسسات ضعيفة الصلة بأبنائنا وبناتنا في هذا الزمن المتأزم بالمتغيرات لتتولى المسؤولية وحدها، فإني أرى أن نستثمر بجدية في برامج التربية المنزلية التي يقوم عليها الآباء والأمهات، وربما الأقارب حتى نحقق أهدافنا.

نتائج التربية المنزلية التي نباشرها بأنفسنا كآباء وأمهات سوف تكون -بإذن الله- اللبنة الأولى وحجر الأساس لتفعيل بقية قطاعات المجتمع لتبني عليها ما يمكن أن يكون برنامجاً تربوياً متكاملاً، لاسيما في ظل تزايد المسؤوليات التربوية التي تضطلع بها القطاعات التربوية خارج نطاق المنزل والأسرة. وضعف القيام بهذه المسؤولية -في تقديري- هو مكمن الخلل الذي نشأت عنه أزمتنا التربوية المعاصرة التي جعلت بعض المؤثرات التي يتعرض لها أبناؤنا لفترة قصيرة تجرّهم إلى الهاوية بشكل يشابه فعل السحر فيهم.

لا يكفي أن تكون الرغبة صادقة في تربية أبناء صالحين ما لم يكن الآباء والأمهات على وعي بالمسؤولية الملقاة على عواتقهم وأهمية استجابتهم لمتغيرات التربية المعاصرةº إذ إن كثيراً منهم يربي أبناءه بالطريقة نفسها التي ربّاه بها والداه. فبعضهم تربّى على الضرب والقسوة وربما التهديد بالطرد من المنزل، وكان هذا الأسلوب مجدياً معه في زمن لم يكن أصحاب السوء مستعدين لتلقّفه وجره معهم إلى مهالك أعظم وأطم، كما هو الحال الآن.

ولذلك فإن الخطوة الأولى التي ينبغي أن نتجرأ على القيام بها هي الثورة على الأنماط التربوية الشائعة التي لا تكرس إلا التمرد والعصيان، أو تكرس -ربما كردة فعل على الأولى- الكسل والاتكالية، ونستبدل بها أنماطاً تشجع على التعاون والطاعة والثقة بالنفس والمبادرة. وهذه الثورة ليس لها مكان إلا دواخل أنفسنا، حيث ننظر في أخطائنا بمنظار صاف وصادق يرتجي الناظر من خلاله تشخيص الخطأ، ثم الاعتراف به، ثم البحث عن علاج له.

برامج التربية المنزلية ينبغي أن تنبع القناعة بها قبل أن تطبق، وهذه القضية بحاجة إلى أن تكون من هموم السياسيين والخطباء والدعاة والصحفيين والوجهاء التي لا يغفلون عنها حتى نستطيع الخروج من النفق المظلم الذي دخلناه ثم اعتقدنا أنه العالم الذي لا يمكن تغييره.

إن كثرة الحديث عن هذا الأمر ربما أحدثت ثورة اجتماعية ضد القناعات والرؤى الخاطئة السائدة تشابه ثورة \"الرأي الآخر\" التي غزت -كممارسة اجتماعية- كافة المستويات، بدرجة أصبح من يخالفها متخلفاً.

ولعل الله - تعالى -أن ييسر من أهل العلم والتجربة والحماس من يساهم في وضع لبنات عملية أصيلة تساهم في تأسيس برامج التربية المنزلية التي نؤمل عليها توجيه الأمة نحو المستوى الذي تطمح في الوصول إليه في وقت هي بأمس الحاجة إلى مقاومة المؤثرات التي تكتسحها دون هوادةº فهذه المهمة أكبر من أن يتناولها فرد أو مؤسسة بمفردهاº إذ لا بد من تكاتف الجهود وتصحيح بعضها بعضاً عند وقوع بعض الأخطاء التي لابد من وجودها في مشروع ضخم بهذا الحجم.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply