إذا كانت معظم الحضارات السالفة التي ازدهرت قبل ظهور الإسلام، قد عرفت ألواناً متعددة من التربية طبعت حياتها بطابع يعكس فلسفة كل أمة من تلك الأمم..
فإن الأمة الإسلامية قد انفردت عن غيرها من الأمم بنظام تربوي متميز قادر على تكوين أجيال مسلمة متوازنة، قادرة على تحمل المسئولية الكاملة في تحقيق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.
ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المربي الأول الذي قام بهذه المهمة التربوية فرسم نماذج تربوية للطفولة لم يسبق لها مثيل في عالم الرعاية بالأطفال، حيث كان يشرف بنفسه وبأسلوبه الفريد في تنشئة تلك البراعم التي لم تتفتح، والأغصان التي لم يشتد عودها بعد.
ولم تكن هذه التربية النبوية قاصرة على من يعيش في كنف النبي الكريم - صلي الله عليه وسلم-، أو من يعيش تحت سقف بيته، بل كان ذلك مبدءاً تربوياً ينتهجه لأمته عامة، ويرسخه لكل الأجيال من بعده ليقتفوا أثره ويسيروا على منهجه التربوي عملاً بقوله - تعالى -: (لَقَد كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرجُو اللَّهَ واليَومَ الآخِرَ) [الأحزاب: 21].
ولو تتبعنا مراحل المنهج التربوي النبوي في عالم الطفولة لرأينا أن مرحلة التربية تبدأ منذ أن يكون الطفل سراً في عالم الغيب، وذلك ليضمن الأصل الصالح، والمنبت الطيب، والمحضن الأمين، فدعا الزوج لاختيار الزوجة الصالحة التي ستكون مصدر عزة الطفل ومربيته على الفضائل.
فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « تخيروا لنطفكم، فأنكحوا الأكفاء وانكحوا إليهم » [1] وقال - عليه السلام -: « تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك » [2].
كما دعا - عليه الصلاة والسلام - المرأة وبنفس القوة إلى إيثار الزوج الصالح الذي سيكون أباً لأطفالها وقدوتهم ومصدر عزتهم، فقال - تعالى -: (ولَعَبدٌ مٌّؤمِنٌ خَيرٌ مِّن مٌّشرِكٍ, ولَو أَعجَبَكُم) [البقرة: 221].
كما قال - صلى الله عليه وسلم -: « إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد، قالوا: يا رسول الله وإن كان فيه؟؟ قال: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فانكحوه.
ثلاث مرات » [3]، وما أن يتم عقد الزوجية حتى يتمثل الزوجان قول الله - عز وجل -: (رَبَّنَا هَب لَنَا مِن أَزوَاجِنَا وذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعيُنٍ, واجعَلنَا لِلمُتَّقِينَ إمَاماً) [الفرقان: 74].
وقبل المباشرة يردد الزوج ما أرشده إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -: « بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا » متفق عليه.
وهذا من باب الأخذ بأسباب التربية الصالحة التي تبعث في الزوجين الطمأنينة على مستقبل أطفال أصحاء روحياً وجسدياً.
وما إن تستقر النطفة في رحم المرأة، وتبدأ مرحلة تكوين الجنين في بطن أمه حتى يوصي الإسلام بالعناية بالحامل عناية كبيرة من أجل سلامتها وسلامة جنينها، فيأمرها بالأخذ بالأسباب العلاجية، والوقائية، والنفسية، والروحية، لدرجة أنه يعفيها من فريضة الصيام أثناء الحمل [4]، كما أنه يحثها على قراءة القرآن، والدعاء المستمر، فقد أثبتت التجارب العلمية والعملية أن المرأة المتزنة، والمطمئنة نفسياً، يتصف وليدها بطبيعة هادئة ومتزنة على عكس المرأة المضطربة نفسياً والتي تمارس العادات السيئة.
وبعد الولادة حيث يستقبل الطفل بالفرح والبشارات ومع بداية هذه المرحلة الهامة من حياة الطفل الذي يكون فيها جاهزاً لكل ما يعرض عليه من مكارم الأخلاق، ومحاسن الصفات، سنَّ لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نبدأ هذه المرحلة بغرس جذور العقيدة وكلمة التوحيد والشهادة من خلال الأذان في أذن المولود اليمنى.
فقد أذن النبي الكريم في أذن الحسين بن علي، فعن عبيد الله بن أبي رافع قال: « رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن في أذن الحسين حين ولدته فاطمة » [5].
وحين يبلغ الطفل يوم سابعه يوصي الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتكريمه والاحتفاء به حين يقول: « مع الغلام عقيقته، فأهريقوا عنه دماً، وأميطوا عنه الأذى » [6].
فيأكل الفقير والأقارب من هذا الاحتفال بقدوم المولود، ويحلق شعره ليماط الأذى عن رأسه، ويتصدق بوزنه من الفضة على الفقراء، والمساكين، والمحتاجين، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - لابنته فاطمة - رضي الله عنها - حين ولدت الحسين: « احلقي رأسه فتصدقي بوزنه من الورق على المساكين » [7].
وفي هذا اليوم أيضاً ندب - عليه الصلاة والسلام - تسمية الطفل واختيار الاسم الحسن له حيث قال - عليه أفضل الصلاة والسلام -: « أحب الأسماء إلى الله - تعالى -عبد الله، وعبد الرحمن » [8]، فكانت هذه أيضاً مكرمة للطفل تساعده على الابتهاج حين يدعى باسم حسن، وتجنبه الاعتزال والخجل فيما لو أسماه اسماً قبيحاً.
ومن أجل ذلك حرص - عليه السلام - على إبدال الأسماء القبيحة بأسماء حسنة، كما بين لنا أحب الأسماء وأصدقها، وأقبحها.
وهكذا تتدرج العناية بالطفل والاهتمام به، وتربيته بكل أنواع التربية الشاملة من خلال توجيهات نبوية كريمة في كل مرحلة من مراحل نمو الطفل نفسياً، وجسدياً، - بدءاً من التربية العقدية السليمة، ومروراً بالتربية الاجتماعية والخلقية، والعاطفية.
ولكن المهم الذي لا بد من ذكره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان نموذجاً فريداً للأبوة الكريمة في حياة البشرية.
يفرح بقدوم الأطفال، ويشارك في اختيار أسمائهم، ويحنو عليهم فيمازحهم، ويلاعبهم، ويضمهم إلى صدره الكريم، ويقبلهم بفمه، فإن هذا يعطيهم الجو النفسي للحياة الإنسانية السوية، رحمة، وحباً، وإخاء.
وبذلك كان من ثمار هذه التربية الفذة أن أنشأت جيلاً مثالياً حقاً في إيمانه، وعبادته، وتفكيره، وأخلاقه، ومعاملته.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 1067.
(2) حديث متفق عليه أخرجه البخاري في النكاح (9/115) ومسلم برقم 1466.
(3) أخرجه الترمذي برقم 1085 في النكاح، باب ما جاء إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه.
(4) (البيان): الإسلام لا يعفي المرأة الحامل من الصيام إلا إذا خافت على نفسها أو ولدها من الضرر فالأمر مقيد والله أعلم.
(5) أخرجه أحمد في المسند (6/9) وأبو داود برقم 5105 والترمذي برقم 1514 وقال: حسن صحيح.
(6) أخرجه البخاري (9/509) كما في الفتح، وأبو داود برقم 2839 والترمذي برقم 1515.
(7) أخرجه أحمد (6/290 و 292) والبيهقي في سننه (9/403) وسنده حسن.
(8) أخرجه مسلم برقم 2132.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد