مفاهيم تهم الداعية المغترب ( 1 )


  

بسم الله الرحمن الرحيم

1-توحيد الكلمة ونبذ الفرقة

لا شك أن عودة الإسلام أصبحت واقعاً لا مرية فيه، وأن تيار العائدين الجارف أضحى حقيقة مفرحة للمصلحين، ومرعبة للحاقدين.

إن سفن الدعاة أوشكت أن ترسي على بر الفاتحين لتعيد الجولة للإسلام فيبلغ ما زوي للنبي - صلى الله عليه وسلم - منها. وكل يوم يخرج المستضعفون المعلقون آمالهم على وصول سفن الدعاة، كل يوم يشرقون مع شروق الشمس على المراسي، فينتظرون وصولها، ينتظرون إلى المساء، ثم يعودون أدراجهم مع الغروب أسفين على تأخرها، كل يوم. هي سفن الدعاة تزداد وتكبر وتكثر إذ تشق عباب الموج الهادر في طريقها، لكن ثمة عوائق وسدود تحول دون وصولها إلى المراسي. تُرى ما هذه والعوائق والسدود؟.

إن أعظم العوائق هي شغل الشيطان الذي رضي به بديلاً بعد أن يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العربº كما قال الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -: \" إن الشيطان يئس أن يعبده المصلّون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم \" (1). فإذا حصل أن حمل نفر من أهل جزيرة العرب تحريشهم إلى إخوانهم في خارجها ووزعوه كما توزع الجرائد والمجلات والأشرطة، فإن هنالك ثمة مفاهيم ينبغي أن يتحصّن بها المسلم المغترب ضد هذا التحريش.

لقد ضرب الأديب مصطفى صادق الرافعي مثلاً ينطبق علينا إذا عدل تعديلاً طفيفاً: يقول الرافعي - رحمه الله -: \" إن قوماً من العرب ترحّلوا عن بعض منازلهم فكان من أنسائهم (2) قطعة مرآةِ صقيلة كأنها وجه المليحة التي نَسِيَتهَا، فمرت بها ضبع كأشأم ما خلق الله قبحَ طلعة وجهامةََ منظر، حتّى كأن في وجهها تاريخ الجيف التي اغتذت بها، فوقفت عليها تعجب من إشراقها وسناها، وما كادت تنظر فيها حتّى راعها وجهها ولا عهد لها برؤيته من قبل... فانقبضت الضبع وزوت وجهها وقالت: (من شرٍّ, ما اطرحك أهلك أيتها المرآة) (3) \". إن الناظر إلى الإسلام أول ما ينظر منه هو هذا التنازع الشرس بين بنيه، أفنلومه إذا ردد مقولة الضبع؟ !

وأكبر من هذا أنّه لو سبر المنصف التاريخ لوجد أن كل تسلط للأعداء على المسلمين سببه التفرّق والاختلاف بينهمº تبدأ المشكلة صغيرة، ثم تظل تكبر وتكبر، حتى تطفح، وكان التتر والصليبيون- واليوم الغر ب- هناك يرقبونها بحذر وانتباه، يؤججون أوارها، حتى إذا نضجت الفتنة وتشاغلنا بها عن هدفنا أحرقتنا مدافعهم وأخرجتنا من ديارنا وأبنائنا.

إن من رحمة الله - جل وعلا - بالأمة الإسلاميّة المعاصرة أن قيّض لها علماء ودعاة وفصائل يرابطون على إحياء فرائض مختلفة، فكان الأليق بشكر هذه النعمة أن يحترم كل فرد أو فصيل عبودية أخيه، وأن يتذكر أن أخاه رفع عنه إثم التقصير في أداء ما ضاق عنه وقته، فيتناصح الجميع ويتراحمون من أجل أن تتكامل هذه الفرائض على إقامة الدين كلّه، فيكونون بذلك أهلاً لتحقيق وعد الله بالنصر والتمكين.

 

أمور تلح على توحيد الكلمة:

أولاً: كثرة نصوص الكتاب والسّنّة الآمرة بالاجتماع ونبذ التفرّق، من ذلك قول الله - تعالى -: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا)(آل عمران 203)، وقال: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)(الأنفال 46). وقال: (ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا) (الروم 31، 32)، وقال: (إن الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء) (الأنعام 159)

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: \" فلا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض \". ويوم أن حاول عبد الله بن أبي بن سلول تشتيت أخوّة المهاجرين والأنصار اغتم النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك أيما غمّ، وسار بالناس سيراً ينسيهم تعبه مكيدة هذا المنافق، ثم أنزل الله قرآناً يتلى إلى يوم القيامة وسورة سمّيت سورة المنافقين لفضح دسائسهمº يقول الله - تعالى -في ثناياها: (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتّى ينفضّوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون، يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون)(المنافقون: 7، 8) والنصوص في ذلك كثير.

 

ثانياً: إننا أمام هجمة عظيمة وكيد كبارمن الكفّارº النصارى الذين يعملون ليل نهار على تحويل الأمة الإسلاميّة إلى أمّة غير ذات رسالة، واليهود الذين يسعون إلى جعل المنطقة الإسلاميّة منطقة نفوذ لليهود، ولا يمكن مجابهتهم بأقوى من جمع الكلمة ووحدة الصف.

 

ثالثاً: المنافقون المندسّون في الصفوف، والذين يستخدمون الأدب والشعر والصحافة والتلفاز والإعلام والمقصف والمدرسة والجامعة وكل وسيلة لتغيير عقليات المسلمين وأفكارهم، وهؤلاء يجاهرون بدعواتهم في بلاد الغربة ولا يحتاجون إلى النفاق، فالواجب قطع الطريق عليهم ومجابهتهم صفّاً واحداً.

 

رابعاً: المشركون الوثنيون من عباد البقر وغيرها من الأوثان، الذين أصبحوا يشمخون بأنوفهم ويرفعون عقيرتهم على الإسلام وأهله.

كل هذه الهجمة تستهدف وجودنا وديننا، وتحتاج ولا شك منا إلى جمع الكلمة لمواجهة هذا الكيد العظيم المدروس المدبّر المدجج بأحدث ألوان التقنية الغربية. وهم مع هذا أعداء معلنون للعداوة، وقد نجحوا في تضليلنا وإفسادنا وإهدار كرامتنا، بل نجحوا في تغيير عقائد الجم الغفير من جهلة المسلمين، وهناك دول، وأقاليم، وطوائف قد لحقت بالنصارى، وأخرى بأهل الأوثانº مصداقاً لما أخبر به الصادق المصدوق عليه صلاة الله وسلامه في حديث ثوبان: \" ولا تقوم الساعة حتّى تلحق فئام من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان \"

 

خامساً: أضف إلى ذلك أن المغترب أولى بنبذ الفرقة، لأنه الصورة الأولى التي تعكسها مرآة الإسلام الصقيلة إلى غير المسلمين.

أفلا يحتم علينا كل هذا أن نناقش المسائل المختلف فيها بكل معاني الصراحة. خاصة إذا تبين لنا أن هذه المسائل أو تلك لا تتجاوز دائرة ترتيب الأولويات، مع الاتفاق على جواز العمل بالمرجوح والمفضول رعاية لمصلحة شرعيّة معتبرة.

 

بعض المسائل المختلف فيها

1-المسائل الفقهيّة.

2-المسائل الواقعيّة: مثل:

-العمل السياسي، وضوابط دخول المغترب فيه.

-المؤسسات الأخرى، والتي نستطيع من خلالها انتزاع حقوقنا والدعوة لديننا.

- الجماعات الإسلاميّة والتفضيل أو الانتماء وأحاديث الطائفة المنصورة.

- العمل الجهادي و توقيته.

- أولويات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر شؤون الدعوة.

 

ولنبدأ أولاً بالمسائل الفقهية

لا أظن أن المسلم المغترب يجهل أن المسائل الفقهية الخلافيّة مما لا ينبغي أن تكون مجالاً للتضليل أو التفسيق أو التبديع أو الولاء والبراء، ليس فيها هدى وضلال وحق وباطل، وإنما فيها راجح ومرجوح وصحيح وأصح.

قال شيخ الإسلام: \" وأما الاختلاف في الأحكام فأكثر من أن ينضبط، ولو كان كل ما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوّة \" (4)

ولقد سأل أبو جعفر المنصور الإمام مالك أن يحمل الناس على كتابه الموطأ، كما ذكر ابن عساكر وغيره، فقال الإمام مالك - رحمه الله -: \" لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث وروايات، وأخذ كل قوم منهم بما سبق إليهم، وعملوا به، ودانوا به... وإن ردهم عما اعتنقوه شديد، فدع الناس وما هم عليه وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم \". فقال أبو جعفر: \" لعمري لو طاوعني على ذلك لأمرت به \". (5)

وسئل شيخ الإسلام عن والٍ, لا يرى جواز شركة الأبدان فهل له أن يمنع الناس من ذلك؟

فأجاب - رحمه الله -: \" ليس له منع الناس من مثل ذلك، ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد... إلى أن قال: ولهذا قال العلماء المنصفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره: إن مثل هذه المسائل الاجتهاديّة لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلّم فيها بالحجج العلميّة، فمن تبين له صحّة أحد القولين تبعه، ومن قلّد القول الآخر فلا إنكار عليه \". (6)

 

ثانياً: المسائل الواقعيّة

هذه المسائل أقرب إلى الاختلاف من سابقتها، لأن المسائل الفقهيّة فيها نصوص أحياناً وفيها أصول عامّة، بخلاف المسائل الواقعيّةº فقد لا يوجد نص يعالج المسألة بذاتها، وقد يدخلها شخص تحت نص ويدخلها آخر تحت نص آخر.

وأكثر هذه المسائل الواقعية يخضع لأبواب السياسات الشرعيّة التي تتفاوت فيها الأنظار ويختلف فيها النظار وتحتاج من يعالجها إلى ثلاثة أمور قد لا تتوفّر اليوم للكثير ممن يبحثها.

الشرط الأول: العلم بالشرع: لأن الله - تعالى -قال: (وكل شيء فصّلناه تفصيلا)(الإسراء: 12)، وقال: (ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء)(النحل: 89).

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \" ما تركت أمراً يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النار إلاّ أنبأتكم به \" وقال بعض الصحابة: \" ما ترك رسول الله الله عليه وسلم طائراً يطير بجناحيه في السماء إلاّ بيّن لنا منه علما \".

فكان لا بد لمن يتصدّى للمسائل الواقعيّة الحادثة أن يكون متدرّعاً بالنصوص الشرعيّة والأصول العامة والقواعد الكلّيّة، التي هي كالنور الهادي لمعرفة ما حدث وجد بين الناس.

الشرط الثاني: المعرفة بالواقع لأنه يريد أن يحكم على واقع، كما أن المسائل الشرعيّة لا يفتي فيها إلاّ من يتصوّرها، والفقهاء يقولون: الحكم علىالشيء فرع عن تصوّره.

الشرط الثالث: أن يملك المتصدّي لهذه المسائل سعة الأفق والعقل والفهم والإدراك، حتى لا يفتي بغير حكم الله بسبب ضيق تصوّره، خاصّة إذا تصوّرنا أننا في هذا الزمان نواجه أحوالاً وأوضاعاً غاية في التعقد والتشابه، وهي بحق تعد من النوازل التي ينبغي أن يتنادى فقهاء الأمّة وعلماؤها إلى مؤتمرات ومجامع ومجتمعات ليتباحثوا فيها ويتناقشوا ثم يخرجوا فيها برأي موحّد أو بآراء متقاربة.

وهنا نعود إلى الأمور التي أشرنا إليها آنفاً ونناقشها بشيء من الإيجاز:

أولا: العمل السياسي، وضوابط دخول المغترب فيه.

إن كل ما يتاح لنا كمغتربين في ديار الغربة هو التصويت لحزب أو لآخر، وهذا يحتاج منا إلى توحيد الصفوف، لأننا به نتوصل إلى انتزاع بعض حقوقنا. ولقد كونت الأقليات الإسلامية جمهرة هائلة لا يستهان بها في كثير من البلدان، بل باتت الأحزاب تخطب ودّها، والحكمة ضالة المؤمن، فإذا استطاع اليهود وهم قلة أن يوجهوا سياسات تلك الدول لصالحهم، فإننا نملك من العدد والعُدد ورؤوس الأموال ما يؤهلنا لتأثير أكبر وتوجيه أدق ولو على الأمد البعيد. وعلى من لا يرى هذا ألاّ يكون حجر عثرة في طريق إخوانه.

ثانياً: المؤسسات الأخرى، والتي نستطيع من خلالها كذلك انتزاع بعض حقوقنا والدعوة لديننا.

لندع الشيخ محمد عبد الهادي العمري (7) يتحدّث عن هذا الشأن. يقول - حفظه الله - قد تسهّلت السيطرة على المدارس الحكوميّة في بريطانيا عن طريق المدرسين ومجلس الأمناء، وذلك أن المدارس تحتاج إلى المدرسين المؤهلين، فبدأت بعض الجهات برامج جديدة لإعداد المعلمين وتدريبهم على حساب الحكومة، فلو رُشّح الشباب المسلمون للتدريب فبسهولة سيجدون الفرص للعمل في المدارس ومن ثم سيكون عندهم مجال واسع لنشر الأفكار الإسلاميّة بين الطلبة. كما يمكن إدخال المسلمين في مجلس الأمناء، والآن حسب النظام البريطاني السلطة العليا للمدارس لدى مجلس الأمناء، فهم يستطيعون أن يضيفوا في المواد الدراسيّة أو يحذفوها ويرتبوا البرامج التربوية ويغيّروا المدرسين ونحو ذلك، ويتم اختيار معظم الأمناء من قبل أولياء الطلبة... ولو ينتبه المسلمون إلى هذا الجانب وترشدهم المراكز الدينية لظهرت فوائد عظيمةº فعلى سبيل المثال: في مدينة برمنجهام في بريطانيا في المدرسة الحكوميّة الثانوية انتخب رئيس مجلس الأمناء رجل مسلم صالح ومتحمّس للدين، فهو بالتعاون مع المركز المجاور وبعض أعضاء المجلس نجح في إدخال المادة الدينية كمادة إجباريّة في المدرسة الحكوميّة، والآن جميع الطلبة يدرسون الإسلام، كما خصص مكان في المدرسة للصلوات ولمزاولة المناشط الدينيّة \"(8).

وهذه المسألة واضحة، جليلة الفوائد، فعلى من لا يراها أن لا يضيق الطريق على إخوانه.

ثالثاً: الجماعات الإسلاميّة وأحاديث الطائفة المنصورة.

وهذه من المسائل التي نقلناها من مواطن الإسلام إلى المغتربينº حيث انتقلت جماعاتنا بخلافاتها وتهارجها إلى هناك، ولم ننقل ديننا صقيلاَ صقالة مرآة أولئك الأعراب الرحّل.

إن رفع الشعارات التي تنمّي عقدة التميّز والتفرّد هي من أعظم أسباب التجاذب والتهارج والبغي وفساد ذات البين.

إن جميع فصائل العمل الإسلامي السنّيّة المعاصرة لا تضم بين صفوفها أحداً من أهل البدع المغلّظة ممن يرفعون راية التجهّم أو الجبر أو القدر ونحوه وإنما ينتسب الجميع إلى أهل السنّة والجماعة والطائفة المنصورة، ويبرأون ممن يخالفهم، فلنتصوّر بشاعة الخطأ الذي يتلبّس به من يسعى في تكريس الخصومات بين هذه الفصائل بمخالفات جزئيّة إعمالاً لقاعدة الزجر بالهجر، وتنزيلاً لمقالات أهل العلم في مجانبة أهل الأهواء على من تلبّس بشيء من هذه البدع الجزئية في ساحة العمل الإسلامي رغم أنّه إلى الإخبات أقرب منه إلى العناد والمكابرة.

يذكر شيخ الإسلام أن أحق الناس بوصف الطائفة المنصورة أهل الحديث الذين ليس لهم متبوع يتعصّبون له إلاّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم أعلم الناس بأحواله وأفعاله، ولكنّه يشرح لنا ما يعنيه بأاهل الحديث فيقول: \" ونحن لا نعني بأهل الحديث المقتصرين على سماعه أو كتابته أو روايته، بل نعني بهم كل من كان أحق بحفظه ومعرفته وفهمه ظاهراً وباطناً، واتباعه باطناً وظاهراً، وكذلك أهل القرآن، وأدنى خصلة في هؤلاء محبّة القرآن والحديث، والبحث عنهما وعن معانيهما، والعمل بما علموه من موجبهما، ففقهاء الحديث أخبر بالرسول من فقهاء غيرهم، وصوفيتهم أتبع للرسول من صوفيّة غيرهم، وأمراؤهم أحق بالسياسة النبويّة من غيرهم، وعامّتهم أحق بموالاة الرسول من غيرهم \" (9).

وقال - رحمه الله - في موضع آخر: \" فالأصول الثابتة بالكتاب والسنّة والإجماع هي بمنزلة الدين المشترك بين الأنبياء ليس لأحد خروج عنه، ومن دخل فيها كان من أهل الإسلام المحض، وهم أهل السنّة والجماعة، وما تنوّعوا فيه من الأعمال والأقوال المشروعة فهو بمنزلة ما تنوّعت فيه الأنبياء.... إلى أن قال: والتنوع قد يكون في الوجوب تارة، وفي الاستحباب أخرى \" (10).

ولهذا فإن الجميع مدعوون إلى إصلاح هذا الخلل وتقويم هذا الشعور المتنامي بالاستعلاء والتفرّد، وتأسيس النظرة إلى هذا التعدد على أنّه تنوّع وتخصص، تتكامل به الجهود، وتتكافل به الأمّة في جميع الفروض الكفائيّة، وأن من فتح الله عليه في باب فلا يحل له أن يستعلي بذلك على الآخرين (11)، بل إن كان من فروض الأعيان سعى في دعوتهم جميعا إلى إقامته معه بالحكمة والموعظة الحسنة، وإن كان من فروض الكفايات قنع بأدائه هو ومن اتبعه، ولم يستطل على الآخرين.

 

رابعاً: العمل الجهادي و توقيته.

كل المسلمين يتفقون على أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، وأن فضل المجاهد في سبيل الله كفضل الصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر، وأن الله أعد للمجاهد مائة درجة ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماوات والأرض.

ولكن ثمّة خلاف في أمور، منها:

أ- أنه قد يوجد بعض البدع أحيانا في بلاد الذين رفعوا راية الجهاد، كالأفغان سابقاً مثلاً. ولكننا ندعو ألاّ نجعل من تلبّس بعض المجاهدين بشيء من البدع حائلاً يحول دون نصرتهم على ما عندهم من الحق. وإلاّ فإن نتيجة

هذه النظرة المقتضية منع نصرة أمثال هؤلاء ضخمة لن نستطيع استيعابها ولا تحمّلها كما أنّا لم نستطع استيعاب صدمة ذهاب الأندلس وفجيعتها. ثم إن هذه النظرة تؤدي إلى تعطيل فريضة الجهاد، فقلما تخلو بلد من بلاد المسلمين من بعض البدع والمخالفات.

ب- توقيت الجهاد. لا بأس أن نختلف في توقيت الجهاد، ولكن اختلاف وجهات النظر يجب ألاّ يُذهِب للود قضيّة، فما بيننا من الأواصر أعظم. ستبقى الألسن تلهج بالدعاء للمجاهدين وتدافع عنهم في كل محفل، وستبقى الأيدي تمتد بالنصرة لهم، وستبقى القلوب معلّقة آمالها بنصر الله لهم، وسيبقى الشعور بالأخوة، وتحيّن الفرص للمشاركة بكل وسيلة، وفي كل خير.

خامساً: أولويات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر شؤون الدعوة وهذه مثل سابقتها ترجع إلى تقدير المصالح والمفاسد والموازنة بينها. (12)

وأخيراً عشرون نصيحة لتجنّب التحريش

أولا: يجب ألاّ تكون الدعوة لشخص أحد إلاّ لشخص النبي - صلى الله عليه وسلم -، أما من سواه من الأشخاص فلا ينبغي أن يكونوا متبوعين، تحذيراً من سبل التفرّق قبل وقوعه.

ثانيا: الإقبال على النفس، وتكميلهاº علما، وعملاً ودعوة، واتهام النفس بنقصها، وازدرائها وعتابها، وأن يستخدم كل منا عقله، فلا نعير عقولنا لغيرنا. قال - تعالى -: (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكّروا). وطوبى لمن شغله عيبه عن عيب الناس.

ثالثاً: الحرص على تأليف القلوب، فالخلاف شر كما قال عبد الله ابن مسعود رضي عنه، ولكنّه قائم شئنا أم أبينا، وستقوم الساعة والمسلمون مختلفون فيما بينهم في مسائل تقل أو تكثر، لكن الحزم كل الحزم في تخفيف الشرّ المترتب عليه.

رابعاً: حسن الخلق والدفع بالتي هي أحسن، قال المصطفى - عليه السلام -: \" أقربكم مني منزلة يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً \".

وقال الشاعر:

وذو رحـــم قلّمـــت أظـفار ضغنه *** بحـلــمـــي عـنه وهو ليس له حلمُ

وإن الــذي بينــي ولين بنـي أبــي *** وبـــيـن بنــي عمي لمختلف جــدّا

فإن أكـلوا لحـــمي وفرت لحومهم *** وإن هــدموا مجدي بنيت لهم مجدا

ولا أحــمل الـــحـقد القديم عليهـــمُ *** وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا

خامساً: محبّة الخير للآخرينº بالحرص على كمالهم وهدايتهم والحرص على أن يقبلوا مني النصيحة التي أريد أن أقدمها لهم، فلتحرص أيها الناصح أن تتسلل إلى قلب من تريد أن تنصحه بأفضل والوسائل وأصوب السبل، وما يدريك لعلك أنت المخطئ.

سادساً: تجنّب الاستبداد في القول والعمل والعلم والدعوة، لأن الاستبداد يثير مشاعر الآخرين ويحملهم على البحث عن العيب والخطأ والزلل.

وإذا كنا نرى أن الاستبداد السياسي الذي يعصف بالعالم الإسلامي من أهم أسباب الانشطار والتفرّق في المجتمعات، فإننا نعلم أن الاستبداد في الدعوة من أهم أسباب التمزّق داخل الصف الإسلامي.

سابعاً: العناية بالجوانب الإيجابية في الأشخاص والجماعات والمؤسسات الخيريّة وغيرها، وليس بالجوانب السلبية.

ولنا سلف، بل دليل: فكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - في المناقب يبلغ أسفاراًº مناقب القبائل والأشخاص والأمم، حتّى فارس قال فيهم: \" لو كان الأيمان بالثريّا لناله رجال من هؤلاء\"، أما المثالب فلا تكاد تذكرعنه - صلى الله عليه وسلم -. إن هذا الثناء أسلوب تربوي مؤثر وقوي إذا اتسم بالاعتدال وخلا من المجاملة والتزّلف.

ثامناً: الاعتراف بإنجازات الآخرينº طوائف وجماعات، للإشادة بها لا على سبيل التمهيد لما بعدها من ذكر المثالب.

تاسعاً: ألاّ تجعل من الأشخاص أوالجماعات أو المصطلحات منطلقاً للحديث والدعوة ليذهب الأشخاص من كانوا ولتذهب الرايات واللافتات والأسماء، وليبق دين الله وشريعته وسنّة رسوله الله - صلى الله عليه وسلم -، فما تلك إلاّ وسائل لنصرة دين الله.

عاشراً: أن نصحح النيات والمقاصدº فلا يكون هدفنا أسقاط تلك الجماعة أو ذلك الشخص. هب أني شوّهت صورتك فأسقطتك، وأنك شوّهت صورتي فأسقطّني، من يبقى للناس؟ من للدعوة؟ من للعمل الإسلامي؟

الحادية عشرة: أن نجعل أمامنا هامشاً للخلاف فيما لا نص فيه. ولن نكون أفضل من الصحابة رضوان الله عليهم، وقد اختلفوا واتسعت صدورهم للخلاف.

الثانية عشرة: العناية بالمطالب الشرعيّة المتمثلة في المعروف، والمناهي المتمثّلة في المنكر

الثالثة عشرة: سعة الأفق، سعة الأفق، سعة الأفق: قالها ثلاثاً.

إنك تجد الأمم في الأزمات الكبرى العامّة التي تجتاح الأمة كلها تتغير فيها التحالفات، وتتفاوت الاهتمامات، وذلك لأن صدمة الحدث وقوته غيّرت تفكير الكثيرين، وأجبرتهم إجباراً على النظر والتفكير، واقتحمت مجالات ومدارات التأمل لديهم، واضطرّتهم إلى تغيير اهتماماتهم.

أفلا تغيّر هذه الأزمات التي تمر بنا، وتكالب الأمم علينا من اهتماماتنا، وتنسينا تنافرنا ولو إلى حين:

- لنتصوّر خطر التنصير

- قضيّة فلسطين وصراعنا مع اليهود.

- ما يدك بلاد الإسلام من حروب في كل مكان.

- انحرافات الشباب، الأفلام، المخدرات، البث المباشر، قرناء السوء (13).

- مشكلات المرأة.

فليكن مثل هذا حادياً لنا إلى وحدة الكلمة ونبذ الفرقة وتجاوز الخلاف.

الرابعة عشرة: ضرورة التناوب في القيام بفروض الكفايات:

- السياسة وتبصير الأمة بالخطر الذي يهددها.

- الفقه، الوعظ، الدعوة.

- التبرعات ومناصرة إخواننا المسلمين في كل مكان.

- التعليم والإعلام والتأليف.... إلى آخر ذلك.

الخامسة عشرة: ( وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم ) º فلتتخير الألفاظ الحسنة في ذكرك أخاكº وانظر كيف أن (الشّهد) مدح، (وقيء الزنابير) ذم لشيء واحد:

تقول شـهداً إذا ما جئت تمدحه *** أو شئت ذمّا فــقل قيء الزنابير

مدحاً وذماً وما جاوزت قدرهما *** والأمر قد يعتريه سوء تعـبيــر

فقل  (شهدا)  في وصف جهد أخيكº لأنّه يقلل معك من الفساد والمنكر، ولا تقل (قيء الزنابير) لكون جهده مخالفاً لجهدك.

السادسة عشرة: حسن الظن: التمس لأخيك سبعين عذراً، فإن لم تجد فقل: لعل له عذراً لم أعرفه.

السابعة عشرة: دع الخلق للخلاق تسلم وتؤجرº فانبذ الغيبة والنميمة والكلام في الناس، لا تهدِ حسناتك للآخرين بذكر مساوئهم في كل مجلس.

الثامنة عشرة: استحضر أنك في آخر الزمان.

التاسعة عشرة: عليك بالاحتياط والورع فيما يتعلّق بأمر الناس والجماعاتº فلأن تخطيء بحسن الظن خير من أن تخطيء بسوء الظن. ولأن تخطيء في العفو خير من أن تخطيء في العقوبة.

العشرون: أننا لن نفلح في جمع كلمة المسلمين ما لم نفلح في جمع كلمة الدعاة ولن نفلح في جمع كلمة الدعاة وطلبة العلم والمصلحين ما لم يكن هذا همّاً يؤرقنا ويقلقنا ويملأ عقولنا ويجعل النوم لا يجد إلى عيوننا سبيلا من الأحزان التي نعانيها من التفرّق والشتات والاختلاف والتطاحن والتنازع فيما بيننا.

هذه جمل أجملتها لك، فخذ بأحسنها، ولستُ معلّماً، وإنما مذكر وناصح، فما كان فيها من خير فنحن جميعاً أولى به. سلك الله بنا سبيل الرشد ووقانا سبل الغي.. آمين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،

وصلى الله على محمد عبد الله ورسوله، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

----------------------------------------

1- رواه مسلم

2 - الأنساء: ما ينساه القوم المترحّلون من هنات المتاع، وكان العرب إذا ترحلوا قالوا: انظروا أنسائكم، يريدون هذا.

3- هذه العبارة أصلها المثل العربي السائر: (لأمر ما جدع قصير أنفه). حديث القمر ص12

4 - مجموع الفتاوى (24/173).

5 - كشف الغطاء ص 47.

6 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام (30/80).

7 - رئيس جمعيّة أهل الحديث المركزيّة (برمنجهام بريطانيا).

8 - بحوث ملتقى خادم الحرمين (المؤسسات الإسلاميّة في مجتمع الجاليات والأقليات، نظرة مستقبليّة، المحور الأول (ص18).

9 - مجموع الفتاوى: 4/95.

10 - مجموع الفتاوى (19/117-118).

11- مدخل إلى ترشيد العمل الإسلامي للدكتور صالح الصاوي. بتصرّف.

12- للشيخ سلمان العودة من شريط: (ولكن في التحريش بينهم) وقد استفدنا منه كثيراً في هذه المقالة.

13 - وهذا لدى المغتربين أكثر، وستطرحه هذه النافذة في فصول لاحقة إن شاء الله.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply