للغدر أسباب كثيرة، وبواعث عدة توقع فيه، نذكر منها:
1 عدم قيام الأسرة بواجبها التربوي:
ذلك أن المرء خلق يوم خلق، ولديه استعداد لفعل الخير، وفعل الشر لقوله - سبحانه -: ونفس وما سواها (7) فألهمها فجورها وتقواها (8) (الشمس).
وليس عليه إلا أن يُربَّى على المجاهدة، وبذل أقصى ما لديه من طاقة ليصطبغ بصبغة الخير، وصناعة البرِّ والمعروف.
قال - تعالى -: قد أفلح من زكاها (9) (الشمس).
وقال - تعالى -: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين 69 (العنكبوت).
ويقع عبء التربية الأكبر للمرء في أيامه الأولى من حياته على الأمِّ، إذ لو كانت حازمة مع صغيرها، فلم ترضعه، ولم تقم بتبديل ثيابه كلما بكى، وإنما وضعته تحت منهاج ثابت لا يتغير أبداً إلا في ظروف طارئة، إنها لو صنعت ذلك لنشأ صغيرها على الانضباط في كل شيء، ومن ذلك الحفاظ على العهود والمواثيق، وعدم الإقدام على نقضها مهما كانت الأسباب، أما إذا أهملته حتى شبَّ فإنه ينشأ على الفوضى، والتهاون في كل شيء ومن ذلك العهود والمواثيق، ومهما دُرِّب بعد ذلك على الانضباط فإنه يكون منطوياً على نوع من الخلل، فكيف لو نشأ في بيت شأن الكبار فيه: الفوضى، وعدم الانضباط؟! إنه يقتدي بهم لا محالة إلا أن تتداركه رحمة الله - عز وجل - ويقيض له من يعينه على نفسه.
2 صحبة من شأنهم عدم الانضباط: قد يجد المرء نفسه لسبب أو لآخر في وسط من القرناء شأنهم عدم الانضباط، ولا سيما مع العهود والمواثيق، ويطول بقاؤه معهم، فيتشرب أخلاقهم، ويصير الغدر دأبه، وديدنه.
وهكذا يمكن أن يصنع الأصحاب من المرء، غادراً ناقضاً لعهوده ومواثيقه.
3 عدم السؤال عن العهود والمواثيق، وعدم المتابعة: ذلك أن المرء كثيراً ما يعتريه الضعف البشري، فيغدر بعهوده، ومواثيقه، وربما كان السبب في ذلك عدم السؤال، وعدم المتابعة، لذا كان من هديه - صلى الله عليه وسلم -، سؤال كل ذي مسؤولية، عن مسؤوليته ومتابعة التزامه بهذه المسؤولية، بل على المرء أن يسأل نفسه ويحاسبها، ويعمل على تدارك التقصير.
عن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - قال: أُهدِيَ للنبي - صلى الله عليه وسلم -عنب من الطائف، فدعاني، فقال: \"خذ هذا العنقود فأبلغه أمَّك\". فأكلته قبل أن أبلغه إياها، فلما كان بعد ليالٍ,، قال لي: \"ما فعل العنقود؟ هل أبلغته أمك؟ \" قلت: لا، قال: \"فسمَّاني غُدَرَ\". (1)
4 إقبال الدنيا: ذلك أن المرء كثيراً ما يحافظ على عهوده، عندما يكون عيشه كفافاً، فإذا ما أقبلت الدنيا ببريقها، وزخارفها، فإنه يتهاون بعهوده، ووعوده، وربما يغدر فيها، ناسياً أو متناسياً أن إقبال الدنيا لا يدوم، وأنها إذا أقبلت أدبرت، وإذا كست أوكست، وإذا حلت أوحلت.
5 تحميل المرء نفسه من المسؤوليات فوق ما تطيق: قد يُحمل المرء من المسؤوليات فوق ما يطيق، كأنه يريد أن يعمل كل شيء، والذي يعمل كل شيء لا يعمل شيئاً، وتكون العاقبة عدم الوفاء بالعهود، والمواثيق، بل ربما الغدر كذريعة لإعفاء النفس من المسؤوليات، والتبعات.
6 عدم التدرج في حمل المسؤوليات: ذلك أن الإنسان يحتاج إلى التدرج في حمل المسؤوليات حتى يستخرج ما لديه من طاقات، وإمكانات شيئاً فشيئاً، وإذا حدث أن حمل المسؤوليات جملة واحدة دون تدرج، فإنه لا يستطيع الوفاء بعهوده ومواثيقه، بل ربما يغدر ليكون ذريعة لإعفاء نفسه من المسؤوليات.
7 موالاة الكافرين: ذلك أن الكافرين لا يريدون بنا نحن المسلمين خيراً.
إذ يقول رب العزة - سبحانه -: إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون (2) (الممتحنة).
إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا 20 (الكهف).
وموالاة هؤلاء بمعنى: محبتهم، والإصغاء إليهم، وطاعتهم فيما يشيرون، وما يعرضون يمكن أن تؤدي إلى الغدر، وعدم احترام العهود، والمواثيق.
والواقع المعاصر خير دليل: إذ يشير هؤلاء على نفر من ولاة أمور المسلمين بنقض عقد البيعة مع شعوبهم، بحيث يصيرون سيفاً مصلتاً عليهم، والمفروض أن يكونوا اليد الحانية عليهم، الرحيمة بهم، والمبرر: أن هذه الشعوب، أو نفراً منها يتآمرون عليهم لإزاحتهم عن كرسي الحكم، والجلوس مكانهم.
8 عدم قيام المجتمع بواجبه: ذلك أن للمجتمع دوراً كبيراً في إشاعة الفضيلة، والقضاء على الرذيلة أو على أقل تقدير محاصرتها، إذا قام بواجبه بعزيمة صادقة، وإخلاص، واتباع للسنة، وحكمة، وموعظة حسنة، وجدال بالتي هي أحسن، أما إذا قعد ولم يقم بواجبه فإن الرذيلة، ومنها الغدر، ونقض العهود، والمواثيق تشيع، وتحاصر الفضيلة، بل ربما تتلاشى وتُمحى من المجتمع.
9 عدم قيام ولي الأمر بواجبه: لقد ذكرنا في أكثر من آفة دور ولي الأمر في إصلاح الأمة، وملاحقة أهل الفسق والفجور والعصيان.
وعليه فإذا قصر، ولم يقم بواجبه نحو المعروفين بالغدر بعهودهم ومواثيقهم فإن الخطر يعظم، والشر يستفحل، ويصبح الغدر دأباً، وديدناً للمجتمع.
10 عدم استحضار عواقب الغدر: إذ على المرء أن يديم النظر في عواقب عمله، فإن كانت خيراً لزم هذا العمل، وإن كانت سوءاً أقلع عنه، ونأى بجانبه، وعليه فإذا نسي المرء عواقب الغدر سواء على نفسه أو على العمل الإسلامي، وسواء أكانت دنيوية، أو دينية: إذا نسي المرء ذلك، ولم يستحضره على الدوام كان التمادي في الغدر، وكان الخسران والبوار.
علاج الغدر والوقاية منه:
بعد أن عرفنا ماهية الغدر، وصوره، وحكمه، وآثاره، وأسبابه، فإن العلاج بل الوقاية تكمن في اتباع هذه الخطوات:
1 أن تقوم الأسرة بواجبها في اجتناب الغدر: بأن يتحلى أفرادها لا سيما الكبار منهم بالوفاء بالعهود والمواثيق ويعتذروا عما بدر منهم من غدر في حق الله، وفي حق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفي حق الآدميين، وأن يعملوا في الوقت نفسه لا سيما الأم على تقوية خُلق الانضباط عند الأولاد منذ نعومة أظفارهم وأن يقبِّحوا لهم الغدر، ويحسِّنوا الوفاء، وأن يواظبوا على ذلك، فإن هذا الجهد لو صحَّ من الأسرة فإن له دوراً كبيراً في القضاء على الغدر، وتعليم الوفاء واحترامه، والحرص عليه مهما تكن التضحيات.
2 أن ينقطع المرء عن أصدقاء السوء:
ذلك أن المرء إذا انقطع عن أصدقاء السوء، ولزم أهل التقوى والصلاح فإن ذلك يساعده على التخلي عن الغدر، ويعينه على التحلِّي بالوفاء بعهوده، ومواثيقه، ولا سيما إذا وعى هؤلاء الأصدقاء دورهم في الإصلاح، وأنجح السبل، وأفضل الوسائل التي عليهم أن يستخدموها في أداء هذا الدور، ثم حققوا ذلك على أرض الواقع، وطبَّقوا منهاج المحاسبة الدقيق لتقويم عملهم أولاً بأول.
3 أن يقوم المرء بمجاهدة نفسه:
ذلك أن مجاهدة النفس تكون سبباً في التخلص من آفة \"الغدر\" والتحلِّي بالوفاء، ولا شك أن المجاهدة لا تنشأ من فراغ وإنما لابدَّ لها من زاد، وأعظم الزاد: مراقبة الله، واستحضار المساءلة غداً عن كل شيء لا سيما العهود والمواثيق. لقوله - سبحانه -: إن العهد كان مسئولا 34 (الإسراء).
4 أن يضع المرء الدنيا في موضعها الصحيح: ذلك أن على المرء أن يضع الدنيا في موضعها الصحيح، بأن ينظر إليها على أنها وسيلة لا غاية، وأنه لا ثبات لها، وأن متاعها مهما عظم قليل، وحقير، وأنه سيسأل عن كل شيء فيها من النقير والفتيل، والقطمير، إذا صنع المرء ذلك فإنه يستوي عنده إقبالها، وإدبارها، والأحسن له الوفاء بعهوده، ومواثيقه لا النكث والغدر.
5 أن يحمل المرء من المسؤوليات ما يتناسب مع طاقاته وإمكاناته: ذلك أن على المرء أن يكون بصيراً بطاقاته، وإمكاناته، والظروف المحيطة به، ولا يحمل نفسه من المسؤوليات والتبعات فوق ما تطيق، كي يستطيع مواصلة المسيرة إلى نهايتها، من الوفاء، وعدم الغدر والنكث.
6 أن يتدرج المرء مع نفسه في حمل المسؤوليات: إذا أراد المرء أن يحمل تبعات التكاليف التي كُلِّف بها من ربه وأن يفي بها كاملة دون غدر أو نكث، فليتدرج معها على نحو ما كان يصنع النبي {مع أصحابه.
إذ كان يبايع على ترك المعصية أولاً، لأن التخلية مقدَّمة على التحلية فيقول: \"بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم، وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً، ثم ستره الله، فهو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه\". (2)
ثم يعود ويبايع على فعل الطاعات، والدعوة إلى الله.
فيقول جرير - رضي الله عنه -: \"بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم\".
ثم يبايع على الإيواء، والنصرة كما كان ليلة العقبة، ثم يبايع على الجهاد، والموت في سبيل الله، كما كان في الحديبية.
وهكذا إذا أردنا أن يفي كل ذي عهد بعهده، وألا يغدر أو ينكث، فليكن التدرج شيئاً فشيئاً حتى تكون البراءة والوقاية.
7 التحرر من موالاة الكافرين: ذلك أن التحرر من موالاة الكافرين، فلا محبة، ولا طاعة وإن كان لهم حق التعامل اليومي أو الحياتي ما لم يكونوا محاربين، إن هذا التحرر يخلص النفس من الضغط، والإكراه من أجل حملها على الغدر أو النكث، ويفسح لها المجال، أن تتحلى بالحفاظ على العهود، والمواثيق، والوفاء، وإن لحقها من التبعات ما لحقها.
8 قيام المجتمع بواجبه نحو المعروفين بالغدر: بأن يبدأ المجتمع بالنصح، والإرشاد، فإذا لم ينجح فلتكن الدعوة بالخطاب المباشر وإذا لم يُجدِ ذلك فليكن إنكار المنكر بكلِّ الأساليب والوسائل الممكنة، وأدنى ذاك الإنكار القلبي المتمثل في الحصار والمقاطعة، وتعطيل مصالح هذا الغادر، بحيث يحمله ذلك حملاً على التحرر من الغدر، والنكث في عهوده، ومواثيقه، والحرص على الوفاء، مهما تكن التبعات، والتضحيات.
9 أن يقوم ولي الأمر بواجبه: أي يبدأ في الأمر بترك الغدر، والنكث في العهود، والمواثيق، ثم يبين لهم عواقب ذلك على العاملين وعلى العمل الإسلامي، وكذلك عواقب هذا في الآخرة، فإذا لم ينفع ذلك فلتكن القوة المتناسبة مع حجم الآثار المترتبة على الغدر، ولن يعدم ولي الأمر طريقاً يحمل أهل الغدر والنكث على أن يقلعوا عن هذه الآفة، وأن يتحلوا بما يقابلها من الوفاء.
10 استحضار الآثار المترتبة على هذا الغدر: قدمنا أن للغدر آثاراً سيئة، وعواقب خطيرة على العاملين والعمل الإسلامي، بل عواقب أخروية أشد وأنكى، ويوم يستحضر المرء هذه العواقب باستمرار، فإنه يتولد لديه إحساس قوي، وشعور أكيد، بالندم على ما بدر منه من الغدر، والنكث ويعمل جاهداً على التخلص من ذلك، والتحلي بالوفاء، جبراً للخلل الذي اقترفه فيما مضى من حياته، وهكذا يمكن أن يؤدي استحضار الآثار والعواقب المترتبة على الغدر إلى التخلص منه، بل الحذر من أن يقتحم النفس مرة أخرى.
ــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) أخرجه ابن ماجه في:السنن، من حديث النعمان بن بشير مرفوعاً بهذا اللفظ، وأورده البوصيري في: مصباح الزجاجة.
(2) أخرجه البخاري في الصحيح.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد