عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: » المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان «.
هذا الحديث من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم -، ويمثل - بما يتضمنه من المعاني والدلالات- منهجاً سلوكياً مبنياً على قاعدة اعتقادية واضحة وراسخة، هذه القاعدة هي الإيمان بالقدر إيماناً صحيحاً بعيداً عن الاتكالية التي يهوي فيها كثير من المسلمين نتيجة الفهم الخاطئ لعقيدة القضاء والقدر، مما يفتح الطريق لأعداء الإسلام لرميه بكل الصفات المُنَفِّرة، ولوصم المسلمين كلهم بأنهم سلبيون واتكاليون وغير جديرين بأخذ زمام المبادرة في أي شيء، ولاتخاذ هذه الشبهة فاتحة وخاتمة يفتتحون ويختتمون بها هجومهم على كل ما يمت إلى الإسلام بصلة.
يبدأ الحديث بتقرير حقيقة لا ينبغي أن يعتريها الغموض، ولا أن يحيط بها الشك وهي حقيقة التطلع إلى العلو، والارتفاع عن الضعة والضعف، والمجاهدة والمكابدة من أجل التخلص من كل ما يربط الإنسان بالأرض، حقيقة القوة.
» المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير «.
هكذا على الوجه الذي يستغرق كل معاني القوة وكل معاني الخيرية، دون استثناء، فلا يشار في الحديث إلى نوع معين من معاني القوة، ولا يحدد لها محتوى محدد تنحصر فيه، كي لا تنجرف الشخصية إلى تقديس نوع بعينه من أنواع القوى، فالمطلوب من المؤمن أن يكون قوياً في كل شيء ما وسعه ذلك.
قوة في البدن، وقوة في الحق. وهذه القوة المفضلة المحبوبة من الله ليست غاية بحد ذاتها، وإنما هي وسيلة لغاية أسمى، فالمؤمن القوي أقدر على نشر الحق وتعريف الناس به، سواء في قوة حجته أو قوة شخصيته وسلوكه. والقوة التي يشيد بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ويجعلها مناط التفضيل هي القوة المنبعثة من الإيمان، والمؤسسة على القاعدة التي تعصمها من الشطط والتهورº فتشيع الأمن في النفوس والاطمئنان في المجتمعات، وليست القوة التي تنطلق من عقالها لتهلك الحرث والنسل، وتبث الرعب، وتركب مراكب التدمير لتعبد الناس لها. وحينما يستشعر المؤمن هذا المعنى تكبر نفسه، وتتطلع دائماً إلى أفاق جديدة ترتادها، فلا يكتفي بكلمة الإيمان يقولها بينه وبين نفسه، بل يعمل بمقتضاها ولوازمها، ويحملها للعالمين بقوة غير هياب ولا وجل، يمثل الصف المؤمن بعزته فتترفع نفسه عن صغائر الأمور، ولا تبالي بالصعاب التي تعترضها في سبيل عقيدتها. وكذلك من وجد في نفسه ضعفاً، سواء كان موروثاً أو مكتسباً، يحاول جاهداً أن يتخلص منه بالتدرب على التحمل والمعاناة، وبمقدار ما يقطع من أشواط في تحرير نفسه من معرة الضعف والخنوع يكون حب الله له. وحتى لا يطرح المؤمن الضعيف نفسه في مهاوي اليأس -حينما يدركه العجز عن السمو والارتفاع، فينحط نازلاً إلى منحدر لا قرار لهº - يبقي الرسول - صلى الله عليه وسلم - له شعلة الأمل مضيئة تنير نفسه، فتقف بها عند الحد الأدنى وهو أصل الإيمان الذي يمسك نفسه ويجعلها تتطلع دائماً إلى الأفضل. ثم يرسم الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - الخطة العملية من أجل تحقيق معنى القوة الذي جعله مناطاً للأفضلية، وهو الحرص على ما ينفع. وما ينفع هنا تحدده الغاية الأولى، وهي الإيمان، فكل ما يعود بالنفع على هذه الغاية النبيلة فالحرص عليه مطلوب، والبحث من نيله مسعى كريم يثاب عليه المؤمن، حتى وإن أضيف إلى المؤمن نفسه، فالمؤمن هو الأداة الرئيسية التي أوكل الله إليها تنفيذ شرعه، وإقامة دينه، وكل ما يجعل هذه الأداة تقوم بعملها خير قيام فهو داخل في دائرة المطلوبات لله - عز وجل -، وكل ما يعوقها عن أداء هذه الأمانة وتبليغ هذه الرسالة فهو داخل في دائرة الممنوعات التي طلب إلى المؤمن اجتنابها. ومن أجل أن لا يتكل المؤمن على نفسه، ولا يغتر بقوته أبداًº ومن أجل أن يظل على ذكر من خالقه ورازقه وواهبه كل المواهب والوسائل يطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - منه أن يستعين بالله، فكل عمل لا يستعان بالله عليه لا يبارك الله فيه، لأنه يكون مصروفاً إلى غير مرضاة الله من الغايات النفسية كالأثرة وحب الجاه وإشباع الرغبات. وقد جاءت جملة (واستعن بالله) على سبيل الاحتراس، وذلك لكثرة ما يكتنف الأعمال والمساعي من نسيان هذا الأصل الاعتقادي الأصيل وهو الاستعانة بالله في الأمور كلها، والتبرؤ من الحول والطَول إلا به - سبحانه وتعالى -. جاءت جملة (ولا تعجز) احتراساً ثانياً، حتى يتضح المعنى المطلوب للاستعانة، فلا تقتصر علي الاستعانة باللسان دون اتخاذ للأسباب، ومع ذلك فإن كثيراً من الناس فهم الأوامر الشرعية معزولة عن سوابقها ولواحقها، مقطوعة عن الظروف التي تحيط بها، ومنفصلة عن الأساس الذي تنبثق منه.
فكم من الناس من يحرص على ما ينفعه دون الاستعانة بالله، فينحرف بعمله عن غايته المطلوبة، إلى غاية قصيرة المدى -كحب الذات- فيقع في دائرة الطمع والطغيان! وكم من المسلمين من استحال به الأمر إلى أن لا يقابل متطلبات الدعوة إلى الله بغير الدعاء دون عمل، بل دون التفكير بعمل! ولا يقابل الصعوبات والكوارث النازلة بالمسلمين بغير الحوقلة والاسترجاع، ولا شيء غير ذلك!.
فينبغي أن تفهم هذه الجمل الثلاث على أنها معنى واحد متصل، لا أنها ثلاث جمل منفصلة، فطلب ما ينفع، والحرص عليه يجب أن يكون محاطاً بالاستعانة بالله، بعيداً عن العجز والخَوَر والضعف.
وكي يكون المؤمن إيجابياً دائماً، بعيداً عن كل ما يوقعه في دائرة الندم الذي يشل الحركة، ويكبل الفكر، ويكدر الإحساسº يطلب منه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما يصيبه مكروه، أو لا يتحقق له ما يريد - بعد أن يكون قد بذل جهده، واستفرغ وسعه - أن يكف عن تقريع نفسه، وأن يحررها من الأسف على ما مضى، فما مضى لا يمكن أن يعود، والتقريع لن يعيد مفقوداً، ولن يصحح خطأ، وقصاراه أن يلف النفس بغيوم من الهم تقتل الأمل، وتغتال النشاط أو تجمده. ذلك لأن المرء إذا صحت غايته، وخلصت نيته، وقام بالأسباب فليس من الضروري أن تترتب النتائج بناء على ما قدم من مقدمات، لأن تقدير الله هو الغالب، ومشيئته هي الماضية، فلا ينبغي أن تتقطع النفس حسرات على تخلف النتيجة عن الفعل بعد استفراغ الوسع، واستنفاد الأسباب.
وفضلاً عن أن هذا الأسف وهذا اللوم الذي يوجه إلى النفس لا يفيد شيئاً، فإن فيه نوع اعتراض على قدر الله، حيث ينظر المرء إلى الفعل وكأنه جهد شخصي معزول، لا علاقة لمشيئة الله له، وكذلك فيه تأَلٍّ, عليه - سبحانه وتعالى -، لذلك يحفز النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمن على أن ينأى بنفسه عن مثل ذلك فيقول: » ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان «.
ولنا أن نتوقع أشياء كثيرة من أعمال الشيطان التي تفتحها كلمة: (لو) ونتصور احتمالات الشر على كثرتها عندما يسلم الإنسان قياده إلى الشيطان.
فالشيطان لا يريد للمؤمن راحة البال ونقاء السريرة، ولا يريد له أن يوجه جهده إلى عمل إيجابي منتج له ولفكرته، ويحول بينه وبين تجاوز الخطأ، ويسره أن يدور الإنسان المؤمن في حلقة متصلة من الأخطاء المتتابعة ولا يهتدي لمخرج من ذلك.
وهكذا يحدد الرسول الكريم للمؤمن الغاية والهدف، ويسلحه بالوسيلة، ويرسم له مجال العمل: قلب متصل بالله ومتجه إليه، وجهد إيجابي يتطلع إلى الأحسن دائماً، وأعمال تستمد فاعليتها عن تسديد الله لها، ونفس راضية تقابل المصاعب بالصبر والثبات، وسد لكل ذرائع الشيطان التي يسهل تسلله منها.
فلله ما أَسَدَّ هذا الكلام، وما أسمى هذا التوجيه، ولسنا ندري - والله - بأي جانبيه نحن أشد إعجاباً: بوجازته وجمال سبكه؟ أم بما احتواه من كريم المعنى وجليل المحتوى؟ ! فصلى الله وسلم على قائله، وجمعنا به، وسقانا من حوضه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد