إن المتأمل في سيرة النبي وأحواله، ليرى منه العجب في تعلقه بربه واللجوء إليه والإلحاح على الله بالدعاء والطلب وعدم اليأس، مع أن دعاءه مجاب ورغبته محققة، أما عند مدلهمات الأمور ومفارق الطرق ومضايق الأحوال فإن نبينا يلجأ إلى ربه ويلح عليه في المسألة حتى إن أصحابه - رضي الله عنهم - ليشفقون عليه ويرحمونه من شدة تضرعه وسؤاله، قال الإمام الطبري في تفسير قوله - تعالى -: \"إِذ تَستَغِيثُونَ رَبَّكُم فَاستَجَابَ لَكُم أَنّي مُمِدٌّكُم بِأَلفٍ, مّنَ المَلَـائِكَةِ مُردِفِينَ\" [الأنفال: 9] تستغيثون ربكم: تستجيرون به من عدوكم وتدعونه للنصر عليهم، فاستجاب لكم، فأجاب دعاءكم بأني ممدكم بألف من الملائكة يردف بعضهم بعضاً، ويتلو بعضهم بعضاً، ثم ساق سنده عن عمر بن الخطاب أنه قال: لما كان يوم بدر ونظر رسول الله إلى المشركين وعدتهم ونظر إلى أصحابه نيفاً على ثلاث مائة، فاستقبل القبلة فجعل يدعو ويقول: ((اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض))، فلم يزل كذلك حتى سقط رداؤه وأخذه أبو بكر الصديق فوضعه عليه ثم التزمه من ورائه ثم قال: كفاك يا نبي الله ـ بأبي وأمي ـ مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله: \"إِذ تَستَغِيثُونَ رَبَّكُم فَاستَجَابَ لَكُم أَنّي مُمِدٌّكُم بِأَلفٍ, مّنَ المَلَـائِكَةِ مُردِفِينَ\" ا.هـ.
وأخرج البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما – قال: قال النبي – صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: ((اللهم أُنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد، فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك، فخرج وهو يقول: \"سَيُهزَمُ الجَمعُ وَيُوَلٌّونَ الدٌّبُرَ\" [القمر: 45])) ا.هـ.
وقد أخبرنا القرآن الكريم أن الدعاء عند مواجهة العدو من أمضى الأسلحة وأقواها، قال - تعالى -عن عباده المجاهدين: \"وَمَا كَانَ قَولَهُم إِلاَّ أَن قَالُوا ربَّنَا اغفِر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسرَافَنَا فِي أَمرِنَا وَثَبّت أَقدَامَنَا وانصُرنَا عَلَى القَومِ الكَـافِرِينَ فَـاتَـاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدٌّنيَا وَحُسنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبٌّ المُحسِنِينَ\" [آل عمران: 147، 148]، وقال - تعالى -مبيناً للمسلمين أن تفويض الأمور إليه - سبحانه - يفيد في وقت الأزمات وتحزب الأحزاب: \"الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَد جَمَعُوا لَكُم فَاخشَوهُم فَزَادَهُم إِيمَـاناً وَقَالُوا حَسبُنَا اللَّهُ وَنِعمَ الوَكِيلُ فَانقَلَبُوا بِنِعمَةٍ, مّنَ اللَّهِ وَفَضلٍ, لَّم يَمسَسهُم سُوء وَاتَّبَعُوا رِضوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضلٍ, عَظِيمٍ, إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيطَـانُ يُخَوّفُ أَولِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُم وَخَافُونِ إِن كُنتُم مٌّؤمِنِينَ\" [آل عمران: 172-174].
وقال - تعالى -عن جند طالوت حين عاينوا جالوت وجنوده، وفر منهم من فر: وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفرِغ عَلَينَا صَبرًا وَثَبّت أَقدَامَنَا وَانصُرنَا عَلَى القَومِ الكَـافِرِينَ فَهَزَمُوهُم بِإِذنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَـاهُ اللَّهُ المُلكَ وَالحِكمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَولاَ دَفعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعضَهُم بِبَعضٍ, لَفَسَدَتِ الأرضُ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضلٍ, عَلَى العَـالَمِينَ\" [آل عمران: 250، 251].
وهكذا كل مسلم تنزل به نازلة أو تحل به أو بإخوانه نكبة، يلجأ إلى ربه بالدعاء والضراعة.
في الصحيحين كان رسول الله يقول حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة ويكبر ويرفع رأسه: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ثم يقول وهو قائم: ((اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم كسني يوسف، اللهم العن لحيان ورعلاً وذكوان وعصية عصت الله ورسوله)).
قال الإمام ابن حجر - رحمه الله تعالى -: إنه كما شرع الدعاء بالاستسقاء للمؤمنين كذلك شرع الدعاء بالقحط على الكافرين لما فيه من نفع المسلمين بإضعاف عدو المؤمنين. ا.هـ.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد