إنها رسالة اعتذار نوجهها اليوم، ليس إلى أم أو أب قصرنا في واجبهما، وليست إلى صديقة أو زميلة أخطأنا في حقهما، وإنما هي رسالة اعتذار، شديدة اللهجة، إلى أخت حبيبة، بذلت الغالي والنفيس من أجل الدفاع عنا وعن وجودنا، فيما غفلنا نحن بالمقابل عن تثمين تضحيتها، وتقديم الشكر والتقدير إليها.
إنها رسالة اعتذار لك أختي الأسيرة والمعتقلة في ظلمات السجون، وخاصة في سجون الاحتلال... إليك يا من بذلت روحك وراحتك وسعادتك في سبيل الدفاع عن إسلامنا وأرضنا وكرامتنا...
إليك نعتذر... عن انجرافنا وراء ملذات الدنيا، ونسياننا أو تناسينا، أنك، وأخواتك وإخوانك، تعانون مرارة الظلم والحرمان... وتفتقدون إلى أبسط حق من حقوق الإنسان.. فسامحونا أيتها الأخوات والإخوان... إذا نسينا... ونحن نأكل الأطعمة النظيفة والصحية... أو نغتسل بالمياه الدافئة والنقية... أو نتداوى بالعقاقير الشافية.. أن في مكان ليس ببعيد عنّا... أناس من بني جلدتنا... يبصق في طعامهم الجنود والمساجين... ولا يسمح لهم بدخول المراحيض... وتفتح عليهم مياه المجارير...
إليك نعتذر... عن كل نقطة ماء أهدرناها ولم ندرك أنك عوقبت بالحرمان منها... وعن كل غطاء تدثرنا به داخل سريرنا في ليلة من ليالي الشتاء الباردة، بينما كنت في المقابل عارية مقيدة إلى سريرك... محرومة ليس فقط من الفراش والغطاء ولكن أيضاً من الحق في النوم والاستلقاء...
ثم لماذا؟... ولماذا نريد الغفران؟؟ ولمن؟... ولمن نقدم الاعتذار؟؟ وعن ماذا؟... وماذا نطلب السماح؟؟...
نبدأ بلماذا نريد الغفران؟ … فنقول لعله اليقين بأننا ظلمناك وظلمنا أنفسنا، ظلمناك عندما عجزنا عن إيصال صوتك إلى العالم... عندما فرحنا بجهادك ومقاومتك وعملياتك ثم أهملنا بعد ذلك قضيتك وتركنا واجب الدفاع عن حقوقك وإخراجك من معتقلك... وظلمناك أكثر عندما انصرفنا إلى حياتنا اليومية وتناسينا وجودك ومعاناتك وحقوقك...
أما ظلمنا للنفس فيعود لرفعنا من شأنها، واعتقادنا أننا إذا قمنا بتجميع بعض النسوة وإعطائهن دروساً في الصبر والمواجهة، نكون قد أدينا حق الله علينا... بينما الدرس الحقيقي في الصبر والمواجهة يمكن استخلاصه مما تقدمينه أنت حين تقومين بتجميع مئات الجنود من أجل القبض عليك... أو حين تجعلين من جسدك الطري... وعمرك الفتي... شاهداً حياً على صدق نواياك.
نعطي دروساً في المواجهة وقول كلمة الحق ونحن العاجزون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى في أوساط مجتمعاتنا الإسلامية... بينما أنت تقومين وبكل شجاعة بالوقوف أمام نيابة العدو العسكرية، تعرفين بنفسك وتبدين سعادتك بالعملية الاستشهادية التي قمت بتنفيذها، وتقولين بكل ثقة بالقضية: أنا أرى في عيونكم، أنتم الجالسون بالمحكمة، الغضب وأنا سعيدة بذلك... إن الغضب الذي يظهر في وجوهكم وعيونكم هو نفسه الغضب الذي في قلبي وفي قلب كل الشعب الفلسطيني وهو أكبر من غضبكم... 15 قتيل و 122 جريح هذا رقم قليل مقابل الأعداد التي قتلت بسببكم... وإذا انتم تدعون أنه ليس لدي قلب وإحساس فمن إذن عنده قلب، أنتم؟ وأين كان قلبكم عندما قتلتم الأطفال والنساء في جنين ورفح ورام الله والحرم الإبراهيمي … وإذا كان عقابي في جهنم مثل ما تقول أيها المدعي، فللأسف لن نلتق هناك، لأنني سأنظر إليكم من بعيد وأنتم في جهنم...
ثم لمن نقدم الاعتذار؟ أنقدمه إليك أيها الجنين المقاوم الذي قدّر لك أن ترضع الدمع عوضاً عن الحليب... وقدّر لك أن تولد يتيماً ووالدك حي... وأن تربى وحيداً ولديك أهل... هل تستطيع أن تسامحنا على الركلات التي تلقيتها من المجندات وأنت في بطن أمك؟... أم هل تسامحنا على الأموال الطائلة التي بذلناها من احتفالات أبناءنا ونسينا وجودك؟... أم هل تسامحنا على كرامتك وحقوقك التي فرطنا بها وكفلها الإسلام لك؟....
وأيضاً لمن نقدم الاعتذار؟ أنقدم لك أيتها الفتاة المراهقة ابنة الخامسة عشر التي دخلتِ إلى السجن أربع مرات قبل أن تتمي الثامنة عشر... والتي علمتك تجربة الاعتقال والسجن أهمية العزة والكرامة، وعلمتك أن المواجهة والمجابهة لا تفرق بين امرأة ورجل وبين عجوز ومراهقة.
أم ممن نعتذر أيضاً؟ أمِنك أيتها المهندسة الزراعية التي أرادوا من وراء تعليمك إشغالك بنفسك وإبعادك عن هموم أمتك، فأبيت إلا أن تستغلي علمك ووعيك وثقافتك في سبيل خدمة دعوتك وتحقيق هدفك... أم نعتذر منك أيتها الصحفية المدافعة عن حقوق الطفل الفلسطيني... والتي اعترفت بقتلك لفتى إسرائيلي بعد أن استدرجتيه على شبكة الإنترنت... وصرخت داخل المحكمة العسكرية بكل فخر واعتزاز وأنت مكبلة اليدين \" إنني فخورة بنفسي\".
ثم عن ماذا؟ وماذا نطلب السماح؟... أعن عدم تقديرنا لنعم الله - عز وجل - التي لا تعد ولا تحصى... أنطلب السماح عن مشاعر الوحدة التي تنتابنا ونحن محاطون بالأهل والأصدقاء والأحباب... بينما أنت ومن داخل سجنك الانفرادي... تعرفين المعاني الحقيقية للوحشة والوحدة والظلمة... فليمدك الله - عز وجل - بالعون والأنس اللذان يغنياك عن كل أنيس يبدد أوقاتك سدى أو يجرك إلى معصية أو غيبة أو نميمة...
إليك نعتذر... عن تلك الأيام والساعات والليالي التي تمر مسرعة من عمرنا... وتمر ببطء وثقل من عمرك... تمر معنا تافهة تحمل معها الذنوب المعاصي.. وتمر معك مثمرة تحمل الحلم والأمل بالغد والمستقبل.
إليك نعتذر عن خوف من غد أو خوف من فقر... وأنت تعانين من مخاوف حقيقية وأحاسيس واقعية... فمن خوف على الحياء والشرف... إلى خوف من تفاقم مرض وتزايد ألم...
أليك نعتذر... عن نعومة يدينا وجمال أظافرنا... وعن تلك الأموال التي ننفقها من أجل الاعتناء بهن، وحمياتهن من الضعف التقصيف... بينما أنت تعانين من آثار التعذيب الذي خلف التهابات حادة في جروح يديك... وأراحك من مهمة الاعتناء بجمال أظافرك الذي اقتلعوها من يديك...
وأخيراً... اسمحي لنا أن نطلب السماح من الله - عز وجل - عن كل دقيقة رفض واعتراض واجهنا بها قضاؤه وقدره... وعن كل دمعة حزن ذرفناها على فقداننا لمتعة من متاع الدنيا... وعلى لحظات الغضب الذي واجهنا بها كل من أساء إلينا... بينما أنت ومن داخل زنزانتك راضية محتسبة لقضاء الله - عز وجل -... تتحملين بصبر وأناة كل أنواع القساوة والتعذيب... فهنيئاً لك بإيمانك وجهادك... وليمددك الله بالصبر والفرج... ولتسامحيننا على غفلتنا وتقصيرنا... ولتقبلي منّا أسمى معاني الحب والتقدير... وخالص الدعاء لك ولسائر المعتقلين بالنصر والتثبيت...
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد