التربية السليمة .. المسجد وحده لا يكفي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

ما دور المسجد \"الاجتماعي والدعوي\" في استقطاب الشباب؟

وما الخطوات التي بإمكاننا اتباعها لاستقطاب الشباب لبيئة المساجد من جديد؟

 

يقول الأستاذ محمد حسين عيسى:

أخي الكريم:

من المؤكد أن للمسجد دورًا كبيرًا، فهو الذي ينبثق منه التلقي عن دين الله - عز وجل -، وبما أننا نتلقى عن الله - عز وجل - العقائد والمبادئ والأخلاق وسائر التوجيهات لنا في الحياة، فإن المسجد هو منبع الدين ومنبع الأخلاق، وهو الذي نرجع إليه لاكتشاف أو استنباط أو الاستضاءة لكل ما تظلم علينا فيه الحياة.

وعلى ذلك يجب أن تبدأ التربية للنشء - ذكورًا أو إناثًا - من المسجد منذ الصغر، لأنهم إذا درجوا على قيم ومبادئ وعادات فسيشبّون عليها، خاصة أن الصغار والنشء يجدون بغيتهم حاليا في الفضائيات والإنترنت وسائر وسائل الإعلام، فتتوفر لهم مصادر سيئة - في غالب ما يقدم فيها -، بجانب مصادر التأثير والتعليم الحسنة، وتركهم دون قيام المسجد بدوره المنشود يجعلهم ذلك أكثر استعدادا للتلقي عن المصادر السيئة، وذلك بسبب الصحبة السيئة والرغبة الشديدة لديهم، ولكن بيئة المسجد وصحبة المسجد لا تدعو إلا إلى الخير ولا تعلم إلا ما فيه فائدة، ولذلك يجب ألا نترك النشء والشباب يُتلقَّف بعيدا عن المسجد من مصادر ليست تحت السيطرة.

ولكن في نفس الوقت يجب أن نتعامل مع النشء والصغار بالإقناع وليس بالضغط، حتى لا ندفعهم إلى الممارسات الخفية التي لا يحمد عقباها، فالاقتناع بالخير يجب أن يكون هو الدافع لدى الشباب لدخول المساجد.

 

الأمر الآخر أنه من الضروري تقديم القدوة لهم، فإذا وجدوا إنسانا يصلي أو يظهر الالتزام بالإسلام، أو امرأة تصلي وتلبس ملابس الإسلام ثم يجدون أخلاقهم سيئة وأعمالهم غير مرضية، فإن هذا يكون صدًّا عن دين الله وعن المساجد.

 

* أما عن الخطوات، فإنني أنصح بالتالي:

أولا- الصحبة الصالحة:

فالصحبة السيئة هي التي تبعد عن المساجد، وهي التي تجتذب أكبر عدد من الشباب حيث يرتمي في أحضان الرذيلة، والشباب مولع بالاقتداء بالآخرين، وخاصة من يفعلون هذه الأفعال الخارجة عن القيم والمبادئº لأنهم لم يعتادوا مثلها، فأول خطوة في جذب الشباب هي أن نتعرف عليهم بواسطة من يماثلونهم في السن والثقافة والبيئة.. فالطيور على أشكالها تقع، والأرواح جنود مجندة.

 

ثانيا- تحقيق الدور الحقيقي والفعال في المسجد:

ألا نقصر دور المسجد على السجود والركوع وقراءة القرآن فقط، ولكن يكون مثل مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جامعة للأنشطة والفعاليات العبادية والاجتماعية، ويسهم بدوره -هو وملحقاته- وبشكل فعال في كافة مجالات الحياة، ودور العبادات لدى الأديان الأخرى الآن تمارس هذه الأمور، ونحن أولى بها، وهذه بضاعتنا يجب أن ترد إلينا.

 

ثالثا- أن يكلف شباب المسجد بأعمال الخير وأعمال خدمة المجتمع والبيئة، وأن نعلمهم كيف يخالطون الناس ويصبرون على أذاهم، وأن يبتغوا الأجر من الله - تعالى -.

 

رابعا- أن نعلم الشباب بعض الصناعات، وأداء بعض الأعمال الخدمية والمهارات الفنية والحرفية، وهذه الحرف إما أن يتكسبوا بواسطتها وإما أن يخدموا المسلمين بها.

 

خامسا- أن نعلم شباب المسجد مهارات التواصل الفعال والدعوة إلى الله، فيتعلمون كيف يجذبون أمثالهم من الأقارب والأصحاب والزملاء حتى يتعلموا مثلهم في المسجد.

 

سادسا- عمل أنشطة ترفيهية هادفة لهؤلاء الشباب، كالرحلات الخلوية وزيارة المعارض والمتاحف والمكتبات والمشروعات الصناعية والزراعية وغيرها، حتى يروحوا عن أنفسهم من ناحية، ويتعلموا أيضا هذه الأمور من ناحية أخرى.

 

سابعا- أن يكون هناك بعض اللقاءات والأعمال العبادية والتربوية، كأن يلتقي الشباب بعضهم مع بعض على اعتكاف في شكل ليالٍ, تعبدية، وأن نعودهم الصيام والاجتماع في بعض الأيام على الإفطار في المساجد.

 

ثامنا- أن نوثق الروابط بينهم وبين بعضهم البعض، وأن نعلمهم كيف يزورون بعضهم بعضا محبة لله وأخوة في الله - عز وجل -، وأن يتفقد بعضهم أحوال الآخرين، وأن يتعرف على أهل أخيه وذويه، وأن يكون كل منهم في حاجة إخوانه وفي خدمتهم ومساعدتهم.. يزور مريضهم، ويعين محتاجهم.. وهكذا يصبح المسجد متصلاً بواقع الحياة، بل يوجه هذه الحياة بمنهج الله - سبحانه وتعالى -.

 

ويقول الدكتور محمد منصور:

أخي الحبيب أبو البراءº

شكر الله لكم، وجزاكم خيرا على حبكم للإسلام وحرصكم عليه، وعملكم به وله..

بعد أن تفضل أخونا الكريم الأستاذ محمد حسين عيسى بتوضيح الدور الذي يمكن أن يقوم به المسجد في تربية النشء، فإنني أود أن ألفت النظر إلى أمر غاية في الأهمية أيضا.

لا تتعجب أخي- إذا قلت لك: إن دور المسجد في التربية كدور البيت، وكدور المدرسة، وكدور النادي، وكدور الأفراد المؤثرين في التربية، كالأبوين والأقارب والجيران والمدرسين والأصحاب ومدربي الرياضة ومعلمي المواهب والحرف ونحوهم!.

 

إن تربية المسجد وحدها - أخي الحبيب - تربية ناقصة!! إنها تربية نظرية يأخذ فيها المسلم بعض الأخلاق ليطبقها عمليا في الحياة، فإن لم يطبقها على نفسه ويستخدمها مع من حوله فلا قيمة لها! إنها تربية في مناخ المسجد الذي يملؤه كل خير، وبالتالي لا يوجد احتكاك كبير فيها ولا خبرات! ولذلك فإنها تعد منطلقا لممارسة التربية بشكل أوسع وأعم، وفي مساحات تشمل مجالات الحياة كلها، حتى يكون هناك تطبيق لما تم تعليمه في المسجد بصورة نظرية، إذ مناخ الحياة هو الاختبار الحقيقي للتربية، ففيها ضبط الوعود والمواعيد أو إخلافها، وفيها الصدق والأمانة أو الكذب والخيانة، وفيها غض البصر أو إطلاقه، وفيها حفظ اللسان أو تركه، وفيها التواضع أو التكبر، والكرم أو البخل، والتعاون أو الأنانية، والإتقان أو الإهمال، والبناء أو التخريب، والشورى والحوار أو الديكتاتورية، والحب أو الكراهية، والإقدام أو التراجع، والأمل أو اليأس، والصبر أو الجزع.. وبالجملة فيها الإصلاح والإسعاد أو الإفساد والإتعاس.

وهذا بالطبع - أخي الحبيب - ليس إنقاصا من شأن المسجد، وإنما لوضعه في مكانه الطبيعي من حيث تأثيره في التربية.

 

من المؤكد أن للمسجد فوائده.. ومنها وهي التي فعلها الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيه-: التعارف، والتواصل، والتكافل، والتفاهم، وشحن القلوب بالصلوات والدعوات لتدفع الأجساد لحسن العمل، وزرع الحب والتآلف وسلامة الصدور مع الآخرين، والتعليم، والتعلم، وتبادل المصالح.. وكان على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - تدار منه كل شئون الدولة، وتخرج منه الجيوش، وتقام فيه الأفراح، وتناقش فيه قضايا المسلمين العاجلة والآجلة.. إلى غير ذلك من المنافعº ولكن تظل - أخي الحبيب - هذه المنافع عبارة عن \"عينات تربوية\" يتدرب عليها المسلم لفترة قصيرة في المسجد ليتمكن من ممارستها لفترات طويلة في الحياة العامة مع كل الناس حوله.. طوال يومه وشهره وعامه وعمره كله.

 

إن تربية الإسلام لأبنائه -أخي الحبيب- الجزء الأصغر منها في المسجد، والجزء الأكبر في الحياة مع الله والناس والنبات والحيوان والجماد والفضاء والكون كله.. ببساطة لأن الإسلام يطلب ويحب أن تكون فترة التواجد في شئون الحياة من أجل إصلاحها وإسعادها أكثر كثيرا منها في المساجد!.. وهذا مأخوذ من القرآن الكريم ومن فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتربية لصحابته الكرام، والأدلة على ذلك أكثر من أن تحصى.. وسنأخذ منها على سبيل المثال: مع الوالدين يقول - تعالى -: (ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا)، وبين الأزواج يقول - صلى الله عليه وسلم -: (خياركم خياركم لنسائهم) أخرجه الترمذي، ومع الصغار يقول - صلى الله عليه وسلم -: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا) أخرجه الترمذي، وبين الأقارب يقول - تعالى -: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم)، ومع الجيران يقول - صلى الله عليه وسلم -: (من أحب أن يحبه الله ورسوله فليصدق الحديث وليؤدِّ الأمانة ولا يؤذ جاره) أخرجه البيهقي .. وحتى مع الحيوان - ويقاس عليه النبات وأي مخلوق من يهتم به فله ثوابه كما يقول - صلى الله عليه وسلم -: (في كل كبد رطبة أجر) أخرجه البخاري ومسلم، وفي الشارع يطلب - صلى الله عليه وسلم - إعطاء الطريق حقه وهو: (غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) أخرجه البخاري ومسلم، وفي السوق يقول - صلى الله عليه وسلم -: (من غشنا فليس منا) أخرجه مسلم، وفي التجارة يقول - صلى الله عليه وسلم -: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة) أخرجه ابن ماجة، وفي العمل يقول: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه) أخرجه البيهقي، وفي مجال الزينة والتنظيف والتجمل والتعطر يقول: (إن الله جميل يحب الجمال) أخرجه مسلم، وفي مجال الرياضة يقول: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) أخرجه مسلم.. وغير ذلك الكثير والكثير من أمثلة تربية الإسلام للمسلمين في عموم الحياة والتي وإن كان المسجد من مراكز التربية عليها وغرسها في نفوس المسلمين- إلا أنه لا يمكنه وحده أن يسعها.

 

أخي الحبيب:

إن وسائل تربية النشء التي علمنا إياها الإسلام كثيرة، ولا يمكن للمسجد القيام إلا بالقليل منهاº لأن وقت المكث فيه أقل من وقت المكث في المساحات الحياتية الأخرى، ولأنك تريد تكوين شخصية مسلمة متوازنة متكاملة - قدر الإمكان - تنفع نفسها والمجتمع حولها، وتَسعد وتُسعد من حولها في دنياهم وآخرتهم، شخصية عادلة محبة لمن حولها متعاونة صادقة أمينة وفية بوعودها ومواعيدها، كريمة شجاعة مفكرة مثقفة مبتكرة متطورة تتحمل المسؤوليات وتضحي إذا احتاجها الإسلام والمسلمين والناس عموما، تنطلق بما تعلمته في المسجد لتملأ الدنيا نورا بهذه التعاليم التي تسعد الحياة والتي يصعب الاعتماد على المسجد وحده في تنزيلها إلى مساحة العمل والتنفيذ.

 

فمن أهم الوسائل التربوية مثلا:

المعايشة مع القدوات الصالحة واكتساب أخلاقهم تدريجيا، معايشة أبوين صالحَين وأقارب صالحين وجيران صالحين ومدرسين صالحين وتجار صالحين ..

ومنها إيجاد وتوفير المناخ المنزلي المستقر السعيد بين الزوجين مطمئني النفوس.

ومنها الحوار لتنمية الفكر وحسن التصرف.

ومنها زرع الحب والحنان بين المسلمين كافة، وذلك بوسائل الإسلام المتعددة كالتزاور والرحلات والنزهات والألعاب والمشاركات في الأفراح والأحزان، ونحو ذلك..

ومنها الربط بالله - تعالى - وبتشريعاته من خلال تدبر مخلوقاته وأرزاقه ورحماته، واستحضار نوايا الخير أثناء أعمال اليوم، وإقامة الشعائر من صلاة وصيام وذكر وغيره مما يجعلهم دائمي الحب لربهم ولإسلامهم، دائمي الارتباط به وطلب عونه ورزقه وثوابه وجنته.

ومنها تنمية المهارات اليدوية والعقلية والاهتمام بالثقافة والعلم ليصنعوا الحياة ويسعدوها بأخلاق الإسلام التي تربوا عليها منذ صغرهم.

ومنها تحميلهم تدريجيا بعض المسئوليات التصاعدية ليقودوا الأرض كلها مستقبلا نحو الخير والصلاح والسعادة.

 

أخي الحبيب:

إذا أردت أن تجعل للمسجد دورا في التربية فاجعله ملازما لكل شئون الحياة، حيث كلها مكان للتربية! فاجعل روح المسجد هي الموجهة في المدرسة والجامعة والنادي والشارع وأماكن العمل ووسط السوق وأماكن الترويح الحلال... إلخ.

بهذا سيأخذ المسجد دوره الحقيقي.. دوره في شحن القلوب لدفع الأجساد لإحسان إدارة الحياة وإسعادها.

وفقك الله وأعانك، ولا تنسنا من صالح دعائك.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply